يعد تغير قيم المجتمعات من أبرز مسببات التغيير السياسي فيها، كما تصح العلاقة العكسية حيث تقود التغيرات السياسية الكبرى إلى تغيرات كبرى في القيم الاجتماعية والفردية، ويزخر التاريخ الإسلامي بشواهد عديدة على ذلك.
تمازج القيم نتيجة توسع الفتوحات الإسلامية
أدت حركة الفتوحات الإسلامية الواسعة التي شهدتها الدولة الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بروزها دولة عالمية متعددة الأعراق والديانات واللغات، وأصبح العنصر العربي الحاكم أقل عدداً أمام الموجات البشرية الوافدة، وتراجع الالتزام الأخلاقي بقيم عصر النبوة وبدايات الخلفاء الراشدين، من زهادة في الدنيا، واستمساك بالمثل الديني الأعلى، واعتزاز به، وبلغ الشعور بذلك التغيير إلى حد أن قال الفاروق عمر في أخريات خلافته: «اللهم مللتهم وملوني فاقبضني إليك»، وإلى حدّ أن سأل رجل علياً بن أبي طالب في خلافته: ما بال المسلمين اختلفوا عليك، ولم يختلفوا على أبي بكر، وعمر؟ فقال: لأن أبا بكر، وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا والٍ على مثلك! وحذر عثمان بن عفان من خطورة ما سيترتب على ذلك الانفتاح الاجتماعي المتسارع، فقال في خطبته في مطلع خلافته: «إن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن»، حيث سيُحمل القرآن على غير وجهه بسبب عجمة اللسان وموروث الثقافات السابقة.
حركة الفتوحات الإسلامية أدت إلى تراجع الالتزام الأخلاقي بقيم عصر النبوة وبدايات الراشدين
ولكن هذه المخاوف لم تكن حائلاً دون بذل الحقوق ونشر العدالة في أهل البلاد المفتوحة، وما زالت صيحة عمر بن الخطاب باقية عبر العصور حين قال لعمرو بن العاص، واليه على مصر: «متى استعبدتم الناس يا عمرو وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!».
جدلية قيم الوحدة الإسلامية والاعتزاز القومي
ولم يكن من المتصور أن ينخلع أهل البلاد المفتوحة من موروثاتهم الحضارية كلية بمجرد دخولهم في الإسلام، بل ظهرت بمرور الزمن الضلالات الفكرية، والانحرافات العقائدية، وترك بعضها آثاره على بعض المذاهب الإسلامية، والمعارك الكلامية، والمدارس الفلسفية، بل كوّن بعضها فرقاً صاخبة تخالف الإسلام جملة، وتنتظم في حركات ثورية ضد الدولة كالراوندية والخرمية والمزدكية.
بمرور الزمن ظهرت على أهل البلاد المفتوحة الضلالات الفكرية والانحرافات العقائدية
وكان انتشار الإسلام في تلك البلاد يمتزج أحياناً بمشاعر أهلها القومية، واعتزازهم العرقي بدورهم الحضاري العالمي السابق على الإسلام، فثارت دعوات للمساواة بين العرب وغيرهم، وكانت دعاوى الشعوبية والتعصب القومي تستتر خلف شعارات المساواة، فكان رد فعل الدولة الأموية مزيداً من نشر الإسلام وتعميق آثاره، ومزيداً من نشر اللغة العربية، وتعريب أنظمة الدولة ومظاهر الحياة في تلك الأرجاء، واتسمت ردود بعضهم في مزيد من التعصب للعرب وغمط الآخرين، غير أنه لم يمض وقت طويل حتى تمظهرت تلك العصبيات القومية في دول مستقلة، كما حدث في العصر العباسي الثاني، مما أضعف وحدة الدولة وسلطة الخلافة.
وامتزج الاعتزاز القومي والحمية الدينية على امتداد عدة قرون، فلم يكن أحدهما نقيضاً لآخر بالضرورة، فظهر في هذه الدول المستقلة علماء كبار شغلوا الدنيا، وبرزت مراكز حضارية عظمى قدمت إلى الإسلام عطاء خالداً، وهل ينسى التاريخ رجالاً أمثال البخاري، ومسلم، النيسابوري، والترمذي وابن ماجه؟ وهل غابت شمس بخارى وسمرقند ونيسابور وغزنة وهراة؟ هذا في الشرق وحده، فما بالنا بالمغرب والأندلس وحواضرهما قرطبة وطليطلة وإشبيلية، وفاس ومراكش وشنقيط؟ وما زال الأثر التاريخي العظيم للمرابطين الذين أطالوا عُمْر الأندلس في الإسلام قروناً، وللغزنويين في فتحهم الهند، والسلاجقة الذين أوطؤوا الإسلام آسيا الصغرى، وبذروا بذور الدولة العثمانية.
القيم السياسية والاجتماعية تتباين درجات فهمها ومستويات الالتزام بها مثل الشورى والحرية
قيم الحرية السياسية والشورى
من شأن القيم السياسية والاجتماعية أن تتباين درجات فهمها، ومستويات الالتزام بها، ومن ذلك قيم الشورى وممارسة الحرية السياسية، ويمكن فهم بعض أحداث الفتنة الكبرى زمن عثمان، وعليّ، في ضوء ذلك، إذ اتفق كل الفرقاء على الإقرار بها والسعي لتطبيقها، ثم اختلفوا في فهم حدودها والمواءمات بين تلك الفهوم والمصالح العليا للدولة الناشئة، ووحدتها، واستقرار النظام السياسي بها، فترجم الثوار على عثمان ذلك الفهم إلى ثورة جامحة تبغي عزل الخليفة، ولم يستجب الخليفة؛ إذ رأى أن الثائرين جماعة مارقة ليسوا من أهل الحل والعقد، والتولية والعزل، مع الإقرار بحقهم في التعبير عن آرائهم ومواقفهم في إطار سلمي، فأودت الثورة به، وأودت معه باستقرار الدولة وتجربة العصر الذهبي لها، ليقوم على إثرها نظام سياسي وقيمي جديد.
بمضي الزمن ندر الاجتهاد وساد الجمود وأهملت علوم الحياة بينما اعتنى الغرب بتلك العلوم
قيم التعلم والجدل حول أشرف العلوم
ويُعد التعلم من قيم المسلمين العظمى، وعليه شادوا حضارة باذخة، وتتفاوت الرغبة فيه والقدرة عليه بين آحاد الناس، أما على المستوى الجمعي فتتمايز العلوم بين فروض العين التي تعني أفراد الأمة، وفروض الكفاية التي تخص الأمة في مجموعها، وحافظ المسلمون في عصور ازدهارهم على هذا التوازن الدقيق بين هذين النوعين، لكنهم في عصور التراجع والضعف اختلت بوصلتهم، فوجدنا من يفرق بين شريف العلوم ووضيعها، ويجعل عوم الشريعة في أعلى مراتبها، والعلوم الطبيعية كالرياضيات والفلك والطب في أسفلها.
قال أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/ 1111م) في المقارنة بين الفقه وعلوم الطب: «حاشا لله أن أسوي بين العلمين في الشرف والرتبة»! فاستحوذت علوم الشريعة على كثير من ذوي العقول النابهة، وحققوا بالفعل إنجازات كبرى، غير أنه بمضي الزمن ندر الاجتهاد، وساد الجمود، بينما أهملت علوم الحياة الدافقة من طب وهندسة وفلك وطبيعيات وغيرها، في حين تقدمت أمم الغرب بعنايتهم بتلك العلوم، وتسخير إمكاناتهم السياسية ومواردهم الاقتصادية في دعمها، ودفعت الأمة أثماناً فادحة لتأخرها في تلك العلوم، حيث وقفت عاجزة عن صد الطامعين فيها الذين امتلكوا أزمَّة العلم وقوته المادية الكاسحة.