تناولنا في المقالة الأولى المقصود بإقالة القرآن، وبعض مواضعه في واقع المسلمين، ونتناول في هذه المقالة بعض مظاهر خسارة الأمة من إقالة القرآن وتعطيل عمله في التفكير والحركة.
فَقْدُ الاستقلال الحضاري في مقابل التمكين للتبعية والانقياد
يقوم القرآن في جوهره على تربية معتنقيه على سداسية الاستقلال الحضاري، والتخلص من كافة أوجه التبعية لغير الله تعالى، وهو في ذلك يؤكد:
1- المسؤولية الفردية والاجتماعية؛ (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: 38).
2- الحرية؛ (فَكُّ رَقَبَةٍ) (البلد: 13).
3- الكرامة الإنسانية التي تخضع فقط لإله واحد.
4- العزة والكرامة؛ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: 8)، ويكون ذلك بالاتباع الصادق لأحكامه وتشريعاته القرآنية.
5- تتطلب العزة -موضع الاستقلال الحضاري- القوة، وهو ما أمر به القرآن واعتبره مفصلًا في استقلال الأمة وشهودها ووسطيتها، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال: 60)، والقوة نكرة للتنوع والشمول؛ من قوة المعرفة إلى قوة البنية إلى قوة الإعداد العسكري والثقافي والفكري.
6- مبدئية العمل؛ (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105)، (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) (المؤمنون: 51).
إن هذه المعاني التي يزخر بها كتاب الله تؤكد معنى وجوهر الاستقلال الحضاري للأمة وفرضية الاكتفاء بسواعدها فيما تحتاجه أجيالها المعاصرة، بل الادخار للأجيال اللاحقة، وليس العكس.
إلا أنه في ظل تغييب القرآن عن حركة الأمة غرقت كثير من بلداننا العربية خاصة وبلدان العالم الإسلامي عامة في براثن النظام الرأسمالي وآثامه عبر عمليتي التبعية والانقياد، وتحصد الآن نتائج هذا الغرق وتجني الآفات الاجتماعية والحضارية، حيث لم تحقق الدول التي منحها الله الثروات الطبيعية أي فوائد حضارية من ثرواتها، فظلت مستورِدة للتكنولوجيا، قائمة في اكتساب منافعها وتحصيلها على منتجات الغرب وتقنياته.
أما الدول غير النفطية فلم تستطع الاستفادة من طاقتها البشرية التي منحها الله لها وعقولها المفكرة التي كان من الممكن –بل الواجب القرآني والحضاري- أن تحول مسارها الحضاري، فأصبحت هذه القوة البشرية تحسب ضمن أعداد وأرقام ونسب البطالة والفقر والحاجة! في صورة مفارقة عن النموذج الصيني على سبيل المثال الذي وصل بيده العاملة إلى كل بيت في العالم تقريبًا وأولها بيوت المسلمين.
لقد وقع كل ذلك للأمة لأنها رضخت تحت نيران النظام السياسي الرأسمالي وأسواط أخطبوط النظام العالمي الأمريكي الغربي المادي الجديد القديم، نموذج قارون الذي لا يرى إلا المال غاية، والمال الوالد (الربا) مقصدًا للنمو الفئوي (دولة الأغنياء)، والترويج لمبدأ (الاستهلاك) الترفي الذي يحقق لهذا النظام الشاذ هذا النمو وهذا الفائض لخزائنه بالاحتكار للزراعة والتجارة والعمل، والاستغلال الإنساني لقدرات ومقدرات دول العالم الضعيف عسكريًا أو الذي أُضعف لضمان هيمنته واستغلال نفوذه على العالمين.
هذا النظام الرأسمالي الذي حذر منه القرآن العظيم (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7)، وذلك لمعرفته بآثاره المدمرة للبشرية، فهذا النظام الذي لا يسمح بتحقيق النمو إلا لمؤسساته والمشاركين الأوروبيين له بقدر ما، أما باقي دول العالم –أي الباقي بتعبير هنتنجتون- فليس لهم إلا مرمى الاستهلاك والاستيراد لترويج منتجات الغرب وتسويق ماركاته المسجلة وإثراء شركاته متعدية الجنسيات التي تتحكم في الاقتصاد العالمي، كذلك لا يسمح باقتناء أسرار التكنولوجيا فهي حصرية عليه ومن يعمل في فلكه وبحساب المكسب والخسارة.
تخلت الأمة عن نظام اقتصادي قرآني يقوم على تقدير الملكية الفردية والملكية العامة، وحق الناس والفقراء وحق المجتمع، واعتبر القرآن هذه الحقوق الأخيرة هي حق الله تعالى، نظام اقتصادي يقوم على العمل المنتج باعتباره السبيل الوحيد للحصول على رأس المال، وليس تشغيل المال ذاته للحصول على المال (الربا، المال الوالد) الذي يتحقق معه العطالة والبطالة وما يتبعهما من جرائم اجتماعية وأخلاقية.
مع إبعاد القرآن، وإبعاد نظمه في المال وأحكامه عن واقع السياسات الاقتصادية العربية الإسلامية، وُجِدَ في العالم الإسلامي أعلى نسبة فقراء وجائعين، رغم أنه بحساب الثروات على تعداد سكان العالم الإسلامي ينتج فائضًا كبيرًا يغطي فقراء المسلمين، بل فقراء أمم أخرى ويعتق رقاب شعوب من أسر الديون والرق الاستعماري الجديد.
وما يقال في الاقتصاد يقال في السياسية، حيث رضيت الأمة بالتبعية تارة لمعسكر الشرق وتارة لمعسكر الغرب، ونسيت أن لديها نظاماً سياسياً فريداً هو نظام الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38)، (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159)، الذي كان يمكن تطوير آلياته وأدواته بعيدًا عن أكذوبتي الاشتراكية والديمقراطية اللتين لم تنبتا في واقع الأمة، فتحولتا فيها إلى أفكار انتقامية من الشعوب ومن مقدراتها ومن استقلالها السياسي، وتحولت الحرية التي تبشر بها الديمقراطية والليبرالية في مجتمعاتنا إلى استبداد من طراز فريد يشمل انضواء كل سكنة في المجتمع تحت نيران الاغتيال أو تقييد الحرية.
كذلك في الجانب العسكري والدفاعي فمع تجاوز الأمة الأمر القرآني: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، وأصبح «واستوردوا من عندهم ما استطعتم»؛ أي إحلال الذي هو أدنى مكان الذي هو خير.
وبدلًا من أن تنظر في سورة «الحديد» وفي قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد: 25)، تغاضت عن الامتثال وعن البحث في النفع في التصنيع وصناعة ما تحتاجه من أدوات للأمن العسكري والدفاعي، وراحت تستورد السلاح وتكدسه بدلًا من أن تصنعه، فتراجعت لديها تكنولوجيا صناعة السلاح، والتكنولوجيات المرتبطة به، الذي كان يمكن أن يحقق لها اكتفاء فضلًا عن التطوير الذاتي لصناعة التسليح محليًا، بل إن عددًا من الدول العربية والإسلامية تحتل مراكز متقدمة في استيراد السلاح على المستوى العالمي، رغم أنها لا تستخدمه، فهي إما عقدت معاهدات مع أعدائها (بنهاية الحروب)، أو فريق آخر استقدم (على سبيل الإيجار) قواعد عسكرية غربية تحفظ له أمن حدوده! فضلًا عن طبيعة الاستيراد الذي يكون دائمًا أقل بكثير وأقدم مما يمتلكه عدو الأمة في المنطقة العربية.
تغييب منهج القرآن في الإصلاح النفسي والاجتماعي في مقابل التمكين لمبدأ الصراع في النفس والمجتمع
خسر المسلمون بإقالة القرآن ورفعه من حياتهم الاجتماعية والثقافية والتعليمية -بل خسر العالم المعاصر- عندما فشلوا في تقديم نموذج مجسد للقرآن في الحياة المعاصرة، يبين تفرد القرآن في إصلاح حركة المجتمع وحركة الثقافة ونهج التعليم وفلسفة البناء التربوي.
لقد خسر الإنسان المعاصر منهجًا تتكامل فيه الحياة (المادية والمعنوية)، ليس بحاجة إلى تأجيج صراع بينهما، ولا توتر أو اضطراب في الاختيار، أو الانشداد بين طرفيهما، خسر الإنسان المعاصر منهجًا تتكامل فيه الفردية والجماعية، فليس مضطرًا في المنهج القرآني أن يضحي بأحدهما لينجو أو يفوز الآخر.
خسر هذا الإنسان منهجًا تتآلف فيه الحياة الدنيا مع الآخرة، فليس في حاجة في المنهج القرآني إلى إزاحة أحدهما ليعيش بعيدًا في الآخر.
خسر الإنسان المعاصر منهجًا قرآنيًا يندمج فيه الشهود مع الغيب بلا تنافر أو انقسام، ويتواءم فيه المطلق مع الواقعي بلا تضاد، وينسجم فيه المعياري مع المعاش من غير تناقض أو غضاضة عقلية أو وجدانية.
كان البديل لهذا الغياب للنموذج القرآني في المجال الثقافي والاجتماعي هو التمكين لمبدأ الصراع في الحياة الفردية والاجتماعية، الذي أسس له النموذج الغربي المعاصر سليل الداروينية الصهيونية، الذي تبعه انتشار الأمراض النفسية على مستوى الفرد، والصراعات الاجتماعية على مستوى المجتمع؛ صراع الطبقات، صراع الأجيال، صراع الثقافات وصدامها مما روج له صمويل هنتنجتون، فأضحى الصراع السمة الرئيسة للعالم المعاصر الذي غاب فيه نموذج مجسد للقرآن في أهله، ليحتذي به العالم.