تعتبر الخلاوي مؤسسة تربوية متكاملة لتعليم القرآن الكريم وعلومه، تتجاوز بطلابها حدود الحواجز القبلية والإقليمية في أي بلد تنشأ فيه خاصة الدول الإسلامية بالقارة السمراء، التي تعد الخلاوي من أهم المؤسسات التعليمية فيها ووجدت طريقها في وقت مبكر من وصول الإسلام لهذه الدول الأفريقية وفي مقدمتها بلاد الحبشة (إثيوبيا حديثاً).
ومن خلال التقرير التالي، نتطرق إلى التجربة الإثيوبية في مجال تدريس القرآن الكريم وعلومه عبر الخلاوي ومراكز التعليم الدينية، حيث ظلت الخلاوي في بلاد الحبشة (إثيوبيا) على مدى قرون، أحد أهم منابر ومنافذ التعليم الإسلامي من خلال تحفيظ القرآن الكريم وعلومه، ولا تزال تمثل الخلاوي أكبر المنارات الدينية التي تسهم في نشر الإسلام وحفظ القرآن فضلاً عن تعليم مبادئ القراءة والكتابة واللغة بكل أقسامها والتعاليم الدينية الأخرى.
نشأة الخلوة ودورها
أرجع المؤرخ والكاتب الإثيوبي آدم كامل، خلال حديثه لـ«المجتمع»، نشأة الخلاوي وانتشار الإسلام في إثيوبيا، إلى علماء ومشايخ الخلاوي التي نشأت في الأرياف الإثيوبية.
ويقول: يعود الفضل في الحفاظ على شؤون مسلمي إثيوبيا ونشر الإسلام بصورة عامة بالبلاد إلى العلماء والمشايخ عبر الخلاوي التي بدأت منذ دخول الإسلام إلى بلاد الحبشة ضمن سياق الهجرتين الأولى والثانية لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، مشيراً إلى أن الخلاوي بشكلها الحالي نشأت بعد فترة طويلة من الهجرتين.
وربط الباحث الإثيوبي ما بين نشأة الخلاوي والاهتمام بالعلم وتاريخ دخول الإسلام إلى الحبشة وطبيعة الحياة في إثيوبيا التي يتوزع سكانها ما بين 86% في الريف غالبيتهم مسلمون، فيما تسكن المدن نسبة ضئيلة 14%، ويرى أن هذا ساعد في نشأة وتكوين الخلاوي.
وأضاف كامل أن العلماء هم من تولوا عملية الحفاظ على شؤون المسلمين في الحبشة، لافتاً إلى أن 86% من مسلمي الحبشة في الأرياف، تولوا عملية الحفاظ على شؤون هؤلاء المسلمين.
أهم مراكز التعليم الديني
وقال كامل: إن التعليم الديني كان يعرف بـ«الدرسة» (الطلبة) الذين يتلقون تعليمهم الديني عبر الخلاوي أو المراكز العلمية في الأرياف، التي تولت إعداد المدرسين وعلماء الإسلام، حيث كان في منطقة وولو بشمال إثيوبيا وحدها 5 مراكز علمية، إلى جانب مناطق أخرى، هي: جيما، وهرر، وأرسي، وبالي، قبل أن تنتشر إلى مناطق واسعة جنوب وغرب إثيوبيا.
وأوضح أن منطقة وولو كانت تعتبر أزهر الحبشة، فيما بلغت مراكزها 220 مركزاً علمياً، موزعة في 12 محافظة في منطقة وولو، تخرج فيها نحو 664 من العلماء في شتى المجالات من تفسير القرآن الكريم والأحاديث النبوية والصرف والبلاغة والمنطق والسيرة النبوية.
وأرجع بقاء العملية التربوية في الخلاوي وحتى انتشار الإسلام وصموده أمام الاضطهاد الكنسي الذي كان يمارسه الأباطرة والحكام الإثيوبيون على المسلمين، إلى علماء الأرياف في الحبشة.
وتابع أن هذه التحديات فرضت على العلماء والمشايخ بالريف مسؤولية توعية المسلمين والاهتمام بشؤونهم، وأضاف أن الفضل في إنقاذ مسلمي الحبشة من الجهل يعود للعلماء والمشايخ بالأرياف.
ومثل بقية دول المنطقة، فإن خلوات تدريس القرآن الكريم في إثيوبيا هي من أكبر المؤسسات الدينية التي ساهمت في نشر الدين الإسلامي وتحفيظ القرآن وتجويده، على الرغم من التحديات في البلاد التي توالى على حكمها أباطرة وملوك ينطلقون من خلفيات ومبادئ كنسية ومرجعيات مسيحية.
حضور سوداني
بدوره، اعتبر الباحث السوداني الشيخ دفع الله بخيت أن هناك روابط كثيرة بين الخلاوي القرآنية في كل من السودان وإثيوبيا، فالخلاوي ودور تعليم القرآن الكريم تعد أكبر مظهر من مظاهر العمل التطوعي في العالم، حيث لا يوجد مثلها، وبالتحديد الخلاوي في السودان الموجودة والمتوارثة على مدار التاريخ.
واستشهد بخيت، في تصريحات لـ«المجتمع»، بالعديد من المشايخ والعلماء السودانيين الذين أسهموا في نشر التعاليم الإسلامية وبناء الخلاوي في إثيوبيا خاصة الأقاليم المجاورة أمهرة التي بها تواجد كثيف للعلماء السودانيين في منطقة وولو، وإقليم بني شنقول حيث الشيخ شوغلي؛ وتعني بالعربية خوجلي.
والشيخ خوجلي يعد من الشخصيات التاريخية البارزة، وتولى قيادة الجيش في منطقة بني شنقول غرب إثيوبيا، في عهد الإمبراطور منليك (1844 – 1913م).
نظام الدراسة في الخلاوي
يُشرف شيخ الخلوة على عدد كبير من الطلاب، يعاونه المتقدمون في مستوى التحصيل من المتعلمين، في تعليم القراءة وفي تحفيظ وتدريس الملتحقين بها حديثاً، ويشرف الشيخ على هؤلاء المتقدمين في الدراسة، وفي الوقت ذاته يشرف ويتابع قراءة ومستويات الطلاب الجدد.
وحول طريقة التدريس في أرياف الحبشة، قال آدم كامل: إن طريقة التدريس بخلاوي الريف تختلف عن المناهج التعليمية الأخرى، حيث تبدأ عملية التدريس والتوجيه من سن الخامسة، من خلال المشايخ المعتمدين في القرية الذين يتولون عملية تدريس القرآن الكريم للطفل عن طريق اللوح، ويبدأ اليوم الدراسي في الخلوة فجراً بالتلقين مع الشيخ وكتابة الألواح، ثم تعقبها فترة الضحى التي تنتهي عند الساعة العاشرة والنصف صباحاً، ثم القيلولة.
وبعد صلاة الظهر تستأنف الدراسة حتى زوال الشمس، ويأخذ الطلبة فترة استجمام قصيرة ليعيدوا الكَرَّة بعد صلاة العصر حيث يقرؤون ما يتدارسونه في اليوم التالي.
واستطرد أن الخلاوي بدأت في ظروف غياب الإنارة والكهرباء، وكانوا يستعيضون عنها بجمع الحطب وإشعاله للإنارة في وسط دائرة الطلاب الدارسين للقرآن الكريم.
يضيف الباحث الإثيوبي أن البرنامج الأساسي في هذه الخلاوي يركز على تحفيظ القرآن الكريم وربط الطلاب بدينهم كي يكون لهم تأثير في أسرهم وبين أقرانهم، كما أنهم يتلقون فيها مبادئ الدين ويتعلمون فقه العبادات مثل الصلاة والصوم والطهارة، ويدرسون السيرة النبوية.
وأشار إلى تناقص أعداد الأئمة والمشايخ بالريف، معتبراً أن خلو الأرياف من العلماء والمشايخ يؤدي إلى انقطاع الخلاوي من أداء رسائلها، وبحسب كامل، فقد توفي أكثر من 40 من علماء الريف في إثيوبيا خلال السنوات الأخيرة.
وحول منهج الخلاوي ومراحل التدريس فيها، يوضح أنه بعد إكمال الحفظ ينتقل الطالب إلى دراسة الفقه على المذهب الشافعي والحنفي، ومن ثم اللغة العربية، ولكل فن من فنون العلم مركز خاص ومشايخ متخصصون كل في مجاله.
وقال: إن هذه الخلاوي تعتمد على المزارعين في تمويلها، مؤكداً دور الفلاحين والرعاة في نشر الإسلام ونجاح التعليم الديني بالأرياف للحفاظ على التعاليم الإسلامية.
وكشف كامل، وهو أيضاً مستشار رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بإثيوبيا، أن المجلس الأعلى يعمل في خطة إستراتيجية لمعالجة كل التحديات التي تواجه الخلاوي بالريف الإثيوبي ومراكز التعليم الدينية بمختلف أقاليم البلاد.
وقال: إن الخلاوي التي ظلت تعتمد على العون الذاتي والمساعدات الفردية من المحسنين ومحبي العلم والعلم من أبناء المسلمين، تحتاج إلى رؤية متكاملة ومعالجات شاملة بدأ عليه المجلس بالفعل.
واختتم كامل بالإشارة إلى أنه ضمن المعالجات سيتم إنشاء مراكز تربوية ومطابع للمناهج التربوية الدينية والكتب التي كان يعتمد عليها علماء الريف للحفاظ عليها.