لا تعد الرأسمالية مجرد نظام اقتصادي يعتمد على تقديس الملكية الفردية وحرية التجارة والمنافسة في الأسواق؛ فالرأسمالية نظام يشتمل على معظم مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وربما حتى الدينية، وليس من المبالغة أن نقول: إنه النظام الوحيد الذي يحكم عالم اليوم ويتم الترويج له باعتباره النظام الوحيد الممكن وربما العادل كذلك!
العديد والعديد من التفاصيل الصغيرة المتشابكة التي تشكل حياتنا هي ثمرة هذا النظام الرأسمالي، بدءاً من وجبات الطعام لأثاث المنزل للصفحات التي نتابعها على مواقع التواصل للأخبار التي تصلنا عما يحدث في هذا العالم للأوضاع السياسية والاقتصادية في بلادنا حتى درجة الحرارة التي نرزح تحت وطأتها هي ثمرة من ثمار هذه الرأسمالية.
يمكن القول: إن الرأسمالية نشأت في ظلال مجموعة من القيم الفكرية تأتي على رأسها قيمة الحرية، ومرت بمجموعة من التجارب والتحديات بلورت من خلالها مجموعة أخرى من القيم، فيما تمتلك آلة دعائية ضخمة للترويج لهذه القيم ونشرها وعولمتها بين شعوب الأرض، كما لو كان رفاه وخير هذه المجتمعات مرتبطاً بقيم الرأسمالية.
وفي الوقت ذاته، استخدمت الرأسمالية آلتها العسكرية الجبارة لفرض هذه القيم ومحاربة الأنظمة التي اعتبرتها شريرة ومارقة لأنها تمتلك منظومة قيم مخالفة!
فما أهم القيم التي بشرت بها الرأسمالية العالمية؟ وكيف انعكست على إنسان العصر الحديث؟
الفردانية والمنافسة
يعيش الإنسان المعاصر حالة من الاغتراب والقلق المنهك، ويعاني من افتقاده مشاعر الأمان، فمن أهم سمات المجتمع الرأسمالي أنه مجتمع فرداني تنافسي، فالفردية أحد أبرز القيم التي بشرت بها الرأسمالية، والحرية الفردية هي قدس الأقداس في النظام الرأسمالي، وتحرير الفرد من ضغط المجتمع والجماعات قيمة محورية في الرأسمالية والنتيجة هي تعاظم الذات الفردانية ثم اغترابها، وغياب مشاعر الدفء والحميمية وافتقاد السكينة والسلام؛ فعلاقات العمل والعلاقات العابرة لا تشبع الروح المتشظية التي تسكن حنايا إنسان الرأسمالية.
وما زاد من صعوبة الأمر أن قيمة الفردانية تجاورها على رأس القيم الرأسمالية قيمة التنافسية حيث البقاء للأقوى والأصلح، فالإنسان يعيش حالة من التنافس اللاهث حتى يحتفظ بعمله ويتقدم فيه، أو على الأقل لا يفقده، فعليه قروض وأقساط وديون وهو مهدد إذا فقَدَ عمله بفَقْد منزله، مهدد بعدم قدرته على دفع تكاليف الرعاية الصحية الباهظة، مهدد بالفقر والعوز إذا وصل لسن التقاعد، وذلك كله يسبب له القلق والخوف والتوتر، ويفقده القدرة على الاستمتاع بما يمتلك من رفاهية العيش في اللحظة الراهنة.
الاستهلاك والغرائز
ولأن الرأسمالية دائماً تبحث عن الحلول لمشكلاتها، أو كما تتفاخر أنها تقوم بعملية إصلاح ذاتي للسلبيات الناتجة عن تطبيقها، فقد أولت مشاعر القلق والاغتراب وغياب الأمان الناتج عن الفردانية والمنافسة الشرسة الأهمية الكافية وقدمت الحل عبر قيمة جديدة هي قيمة محورية للنظام الرأسمالي أيضاً ألا وهي قيمة الاستهلاك.
فكما هو معروف أن النظام الرأسمالي يعتمد على الإنتاج الكثيف، وحتى تدور عجلة السوق فلا بد أن يكون هناك استهلاك كثيف يوازي هذا الإنتاج، حتى إن الحروب الإمبريالية كان من ضمن أهدافها، بالإضافة لنهب ثروات الشعوب، خلق أسواق جديدة لمنتجاتها، كما أن صناعة إنسان مستهلك تخلق له الحاجات الاستهلاكية اختلاقاً ضرورة حتمية من أجل حركة الإنتاج، وفي الوقت ذاته فإن الاستهلاك يشبه حبة المسكن للإنسان القلِق، يمنحه بعض السعادة ويقلل بعض مشاعر القلق الذي يعتريه.
وعلى سبيل المثال؛ انتشر نمط الأكل العاطفي، فعندما تزداد حدة القلق يلجأ الإنسان للطعام، بل لنوعية معينة من الطعام، حيث ربط النظام الإعلاني الرأسمالي السعادة بها كالشيكولاتة ورقائق البطاطس والبرجر والمياه الغازية، وهي الأغذية التي تسبب البدانة والأمراض المرتبطة بالأيض، لكن لا بأس فالنظام الرأسمالي يقدم الحل أيضاً من خلال أغذية «الدايت» وأدوية التخسيس، وهذه سوق كبيرة، ولا بأس بتحفيز المستهلك بالسعادة التي سيجنيها عندما يصل لوزن الجسم المثالي، وهكذا دواليك تدور تلك الدائرة الجهنمية (صناعة المشكلة، تقديم حل يتضمن مشكلة جديدة، حل جديد..).
وبمناسبة الهوس بشكل الجسد المثالي، فلقد نجحت الدعاية الرأسمالية نجاحاً منقطع النظير في التعامل مع الغرائز البشرية وتحريضها على الاستهلاك، وفي الوقت ذاته تخدير مشاعر الألم الداخلي التي يعانيها الإنسان الفرداني، وفي سياق ذلك كله يمكننا النظر لصناعة السينما والأغاني وقطاع السياحة والرياضة، وكلها صناعات ربحية عظيمة يمكن أن نطلق عليها صناعات المتعة، وكلها لا تتحرك إلا بقراءة متأنية للنفس البشرية ومشكلاتها وإحباطاتها وأشواقها (والأهم من ذلك كله في صناعة الربح) وغرائزها.
العبودية والتسليع
تنتهي القيم الرأسمالية بالإنسان في نهاية المطاف أن يكون عبداً أو مجرد سلعة، فإذا كان صُنع كثير من المال هو الخير الأعظم كما يراها ماكس فيبر في كتابه «روح الرأسمالية»، فإنه كثيراً ما يتحول الإنسان لمجرد عبد أو سلعة في سبيل الحصول على المال، ألا تستوقفنا مثلاً عملية بيع لاعبي كرة القدم.
إنهم يستخدمون لفظ بيع وشراء مع كل الدلالات والظلال المرتبطة باللفظين، ولكن لأن المبالغ المدفوعة طائلة وفي أجواء احتفالية ووسط زخم إعلامي ضخم فقد تم تمرير المصطلح، نفس الأمر يتم مع الفتيات «الموديلز»، وإذا كانت الإماء في عصور سابقة مرغمات على هذه الحياة، فإن الرأسمالية نجحت في جعل بعض الفتيات يتلهفن للعيش كالإماء مغنيات وراقصات، ولكن بدل أن يكون ذلك في بلاط الملوك فإن ذلك يتم في الحفلات أو خلف الشاشات.
ومن أغرب صور تسليع الإنسان في ظلال الرسملة عبودية العمل؛ فالعمل هو البديل الآخر للاستهلاك لمقاومة الخواء الروحي والألم الداخلي، وأصبحنا نرى في اليابان مثلاً أناساً يموتون أو ينتحرون تحت وطأة العمل بعد أن أصبحت الحياة خاوية والأيام متشابهة.
ألا يتحول الإنسان لعبد عندما يكون «الإنسان الآلة» غير القادر على الحب أو العطاء أو الصبر مستهلكاً في العمل بعد أن دمر العمل حياته الأسرية والاجتماعية في السياق التنافسي الرأسمالي المعروف، أو لعله (أي العمل) علاج أو حل لغيابها وعدم القدرة على التواصل وصناعة أسرة؟
ألا يتحول الإنسان لعبد عندما أصبح عبداً للآلة والتكنولوجيا والأجهزة الإلكترونية، وبعد أن كان يتبجح بأنه سوف يسيطر على الطبيعة والفضاء، انتهى به المطاف مرتعباً من خضوعه للذكاء الاصطناعي؟ أليس ذلك كله من تجليات الرأسمالية في حياتنا؟
هي الرأسمالية بجشعها وسعيها للربح السريع حتى انتهى المطاف بإنسانها من سعيه للسيادة والهيمنة للوقوع في براثن العبودية والتسليع.