لم تكن أفراد الإنسان وَحدات يستقل بعضها عن بعض، وإنما هي بطبيعة ما خُلِقت عليه، وما تحتاجه في الحياة – وحدات تتبادَل المنافع، وتتعاون على المصالح، وبهذا التعاون الضروري للحياة يتحقَّق المجتمع الإنساني.
والإسلام لم يقف فيما يُحقق المجتمع الإنساني عند هذا الحد الطبيعي، الذي كثيرًا ما تَطغى عليه العوامل النفسية والشخصية، فتُخرجه عن حد الاعتدال اللازم للهدوء والسعادة، والأمن والاستقرار، ولكنه شدَّ أَزْر الطبيعة الاجتماعية بما يُقوِّيها ويُقِيمها من الانحراف والانحلال.
فربَط بين أفراد الإنسان برباط قلبي يوحِّد بينهم في الاتجاه والهدف، ويجعل منهم وَحدة قوية متماسكة، يأخذ بعضها برقاب بعض، سُداها المحبة، ولُحْمتها الصالح العام، وهدفها السعادة في الدنيا والآخرة، وهذا الرباط هو رباط الإيمان والعقيدة المتَّصلة بمبدأ الخير والرحمة، وهو الله – سبحانه وتعالى.
وقد اتَّخذ الإسلام عنوانًا لهذا الرباط «الأُخوة الدينية» بين المسلمين، وهي أصدق تعبير عن الحقوق والواجبات الاجتماعية، وهي أقوى ما يَبعث في النفوس معانيَ التراحُم والتعاطف والتعاون، وتبادُل الشعور والإحساس؛ مما يُحقِّق للمجتمع المثالية التي تُخلصه للخير، وتَبعُد به عن الشر.
قرَّر الإسلام هذه الأخوة بين المسلمين، وجاء فيها قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10)، وجاء فيها قول الرسول عليه السلام: «المسلم أخو المسلم، لا يَظلمه ولا يَخذُله ولا يَكْذِبه، بحسْب امرئ من الشر أن يَحقِر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه، ومالُه، وعِرضه».
قرَّر الإسلام الأخوة بين المسلمين على أنها شأن يتحقَّق بمجرد الإيمان والاشتراك في العقيدة، ويَستتبع جميع آثار الأخوة من حقوق تُعرَف للمسلم، وواجبات تُعرَف عليه -وقد سما الإسلام بالأخوة الدينية عن مركز الأخوة النَّسَبيَّة- عليها اصطلح المتخاصمون، وائْتَلف المتفرِّقون، ونُسِيت العداوات، وتُبُودِل العفو والصَّفح، وأصبح المرء بعد تَفَيُّئه لظلِّها يَجلس آمنًا مُطمئنًا في ملأٍ أو خَلوة مع قاتل أبيه أو أخيه، لا يخشى انتقامًا، ولا يتوقَّع أذًى؛ (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) (آل عمران: 103)، (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة: 11).
وبها نسِي المسلم بأخيه المسلم قَبيلته، وخرج على عَشيرته، وخاصَم أباه، وقاتَل أخاه؛ (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (المجادلة: 22).
وبها فقَدت الأخوة النَّسَبيَّة آثارها -من ولاية وتوارُث- إذا تجرَّدت عن الأخوة الدينية، وبها صار المجتمع الإسلامي بالعقيدة والإيمان ذا جهاز واحدٍ، يتقاسم الفرح والحزن، واللذة والألم، والسعادة والشقاء، والرحمة والعطف، والإرشاد والمَعونة، مهما تناءَت الديار، واختلفت الأجناس، وتبايَنت اللغات، شعار واحد: «المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشد بعضه بعضًا»، ودعاء واحد: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) (الحشر: 10).
وقد كان من مُقتضيات هذه الأخوَّة، التضامن الاجتماعي بين المسلمين، والتضامن الاجتماعي: هو إيمان الأفراد بمسؤولية بعضهم عن بعض، هو إيمانهم بأن كلَّ واحدٍ منهم حاملٌ لتَبِعات أخيه، ومحمول بتَبعاته على أخيه، فإذا ما أحسَن، كان إحسانه لنفسه ولأخيه، وإذا ما أساء، كانت إساءته على نفسه وعلى أخيه؛ (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (العنكبوت: 13).
والتضامن الاجتماعي أول عناصر الحياة الطيِّبة للمجتمعات؛ يتوقَّف عليه حياتها، وبه تكون عزيزة كريمة، مُتمتِّعة بهَيبتها، قائمة بواجبها، ولهذا التضامن شُعبتان: تضامن أدبي، وتضامن مادي، والتضامن الأدبي يُحقِّقه قوتان: قوة تَعرف الخير والفضيلة، وتدعو إليهما بصدق وإخلاصٍ، وقوَّة تَستمع وتمتثل وتتقبَّل بقلوب مُطمئنة، وصدور مُنشرحة، وألْسِنة شاكرة، وجوارحَ عاملة، وبتفاعُل القوتين، تَقْوى رُوح التعاون، ويقف الجميع حول مركز واحد يوحِّد الاتجاه، ويُهيمن على المصالح.
وفي قوة الدعوة يقول الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110)، ويقول: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)، ويقول: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).
وفي قوة الاستماع والاستجابة يقول: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً {66} وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً {67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) (النساء).
وإذا ما عدمت قوة الدعوة في المجتمع، وسلَك الأفراد مسلك الشخصية الكريهة والمصالح الخاصة المُفسدة، أو انحرَفوا في الدعوة عن الخير والصالح العام، وتحسَّسوا شهوتهم أو شهوة الناس تفكَّكت روابط المجتمع، واندفع إلى تلبية الأهواء، وتعرض للهلاك والدمار، وفي ذلك يقول الله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة)، ويقول: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود: 116).
وكذلك إذا عدمت قوة الاستماع، وزعَم كل إنسان لنفسه الكمال، وأنه لا ينبغي أن يُوجَّه إليه نُصحٌ ولا إرشاد، وفي هذا يقول الله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة: 206)، ويقول: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء: 61)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (المنافقون: 5).
وإذا بحَثنا عن عدم قوة الإرشاد في المجتمع، أو عدم قيامها بواجبها على الوجه المحقِّق للخير، لوجَدناه يرجع إلى عدم الشعور بالمسؤولية الاجتماعية المُلقاة على عاتق الأفراد بالنسبة للمجتمع، أو الجهل بما يجب أن تكون عليه الدعوة والإرشاد، ومن الحكمة والموعظة الحسنة، أو فِقدان الشجاعة الإيمانية في مُجابهة الناس بالحق، وهذه الثلاثة -عدم الشعور بالمسؤولية، والجهل بطريقة الدعوة، وفِقدان الشجاعة- من أقوى عوامل الفتْك بالمجتمعات.
أما السبب في عدم قوة الاستماع، فهو شيء واحد، هو الغرور بالنفس والاطمئنان إليها فيما نراه، ومن هنا يَنصرِف الناس إلى الفساد وهم يعتقدون أنه صلاح، وإلى الشر وهم يعتقدون أنه خيرٌ، وإلى الباطل وهم يعتقدون أنه حقٌّ، وإلى الخيانة وهم يعتقدون أنها أمانة، وإلى الغِش والخداع وهم يعتقدون أنهما إخلاصٌ، وهكذا تَنقلب الفضائل بالغرور إلى رذائلَ، والمُقَوِّيات إلى مُضْعِفات، فيَنتاب المجتمعَ الضَّعفُ والانحلال.
هذا هو الوضع الإسلامي في علاقة الأفراد بالمجتمع فيما يختص بالمسؤولية الأدبية، وقد آمَن به المسلمون الأوَّلون، فأخلصوا في الدعوة، وأخلصوا في الاستماع، وبذلك استقامت شؤونهم وتقدَّمت حياتهم، وإذا كان هذا الوضع من سُنن الاجتماع، وقدَّره الإسلام ودعا إليه – فإن مجتمعنا لا يعود إليه مجدُه إلا إذا طهَّر نفسه من الذاتية والغرور، وعاد إلى سُنة الأوَّلين، فدعا وأخلَص، واستمَع واتَّبع؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24).
__________________
المصدر: «شبكة الألوكة».