تطرب الآذان وترق القلوب وتسعد النفوس حين تسمع وتردد مع الحجاج والمعتمرين قول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، ففي هذا الشعار العظيم تأكيد على الاستجابة الكاملة لله رب العالمين، ثم الحمد لله على هذه الاستجابة، فهي نعمة وإحسان من الله سبحانه وتعالى، وفي التلبية تأكيد على أنه لا حمد إلا لله سبحانه وتعالى.
معنى الحمد والفرق بينه وبين الشكر
إذا نظرنا إلى كلمة «حمد» نجد أنها تتكون من حروف الحاء والميم والدال، ولو أردنا أن نضع تعريفاً لها فإننا فقط نقوم بتبديل أماكن الحروف، فنقدم الميم والدال على الحاء، ونقول: مدح، فالحمد هو المدح والمدح هو الحمد، غير أن الفرق بينهما أن الحمد مدح بحب، أما المدح فقد يكون بحب وبغير حب، ولهذا كان الحمد لله هو المدح الجميل والثناء على الله بحب وتعظيم(1).
والفرق بين الحمد والشكر أن الحمد ثناء بالقلب واللسان بقصد التعظيم، وليس شرطاً أن يكون بسبب نعمة، أما الشكر فيكون على النعمة ويكون بالقلب واللسان والجوارح والأركان، فالشكر يكون بالقلب خضوعاً واستكانة، وباللسان ثناء واعترافاً، وبالجوارح طاعة وانقياداً، وهو متعلق بالنعم، دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه(2).
أهمية الحمد
أولاً: الله تعالى بدأ كلامه بالحمد، فكان من أوائل آيات القرآن الكريم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2)، وحثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نفتتح كلامنا بالحمد، فقد روى أحمد عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الحاجة: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره»، وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل كلام لا يبدأ بالحمد لله فهو أجذم»؛ أي مقطوع البركة.
ثانياً: الله تعالى سمى نفسه الحميد، وسمى أحب رسله إليه محمداً، وجعل لنفسه حمد الزمان كله والمكان كله، فقال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (الروم: 18).
ثالثاً: جعل الله سبحانه وتعالى عبادة الملائكة هي الحمد لله، حيث قال عز وجل: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (الزمر: 75)، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) (غافر: 7).
رابعاً: جعل الله سبحانه وتعالى الحمد عبادة الرسل، حيث بيّن سبحانه وتعالى قول سيدنا إبراهيم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (إبراهيم: 39)، وبيّن قول داود، وسليمان، فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 15)، وفي شأن سيدنا نوح قال: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 28)، وأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحمد فقال: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً {2} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر).
خامساً: الحمد لله عبادة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن معاوية بن أبي سفيان أن رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ خَرَجَ علَى حَلْقَةٍ مِن أَصْحَابِهِ، فَقالَ: «ما أَجْلَسَكُمْ؟»، قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ علَى ما هَدَانَا لِلإِسْلَامِ، وَمَنَّ به عَلَيْنَا، قالَ: «آللَّهِ ما أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذَاكَ؟»، قالوا: وَاللَّهِ ما أَجْلَسَنَا إلَّا ذَاكَ، قالَ: «أَمَا إنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فأخْبَرَنِي أنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بكُمُ المَلَائِكَةَ»، وعن ابن عمر قال: كنا نلتقي فيسأل بعضنا بعضاً عن أحوالنا لا لشيء إلا ليحمد الله.
سادساً: الحمد عبادة المؤمنين، فقد قال تعالى عن المؤمنين: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ) (التوبة: 112).
ثمرات الحمد في الدنيا والآخرة
أولاً: الاستجابة لأمر الله، فقد أمر الله عباده بالحمد فقال: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) (النمل: 59)، وقال أيضاً: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) (النمل: 93).
ثانياً: تحقيق محبة الله، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من أحب الكلام إلى الله «الحمد لله»، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ، حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ».
ثالثاً: تحصيل الأجر والثواب، ففي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ»، وفي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع قال: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي ورَاءَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ»، قالَ رَجُلٌ ورَاءَهُ: رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قالَ: «مَنِ المُتَكَلِّمُ؟»، قالَ: أنَا، قالَ: «رَأَيْتُ بضْعَةً وثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أوَّلُ».
رابعاً: الحمد يستجلب الرحمة من الله، ففي سورة «الفاتحة» تأتي صفات الرحمة بعد الحمد مباشرة، حيث قال تعالى: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة)، وفي السُّنة النبوية الشريفة تأكيد أن الحمد يستجلب الرحمة، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عَطَسَ أحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الحَمْدُ لِلَّهِ، ولْيَقُلْ له أخُوهُ -أوْ صاحِبُهُ-: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فإذا قالَ له: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ ويُصْلِحُ بالَكُمْ».
خامساً: الحمد لله سبب لنيل رضوان الله تعالى، إذا قال المسلم ذلك عند كل أكلة وكل شربة، ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا».
سادساً: الحمد لله سبيل إلى دخول الجنة، فقد روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ماتَ ولَدُ العبدِ قالَ اللَّهُ لملائِكتِهِ: قبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولونَ: نعم، فيقولُ: قبضتُم ثمرةَ فؤادِهِ؟ فيقولونَ: نعم، فيقولُ: ماذا قالَ عبدي؟ فيقولونَ: حمِدَكَ واسترجعَ، فيقولُ اللَّهُ: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ وسمُّوهُ بيتَ الحمْدِ».
سابعاً: الحمد لله كلام أهل الجنة، فعندما ندخل الجنة أول ما نقول الحمد لله، قال تعالى عن أهل الجنة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وقال أيضاً: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس: 10)، وقال عز وجل: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر: 34).
إذا كان الحمد لله تعالى من أعظم العبادات عند الله، فعلينا أن نداوم عليه في كل أحوالنا، كما أمرنا الله تعالى وكما فعل رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد توافرت الأدلة على لزوم الحمد لله إذا أكلنا وإذا شربنا وإذا لبسنا وإذا نمنا وإذا أصبحنا وإذا أمسينا وإذا عطسنا وإذا رأينا رؤيا وإذا رأينا مبتلى وإذا حدث ما يسرنا أو يضرنا.
____________________
(1) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مادة «حمد».
(2) مدارج السالكين، ابن القيم (2/ 237).