كانت المساجد موئل التعليم الأول في زمن النبوة والراشدين، حيث تعقد بها حلقات التعلم العامة والمتخصصة، ولحقت بها الكتاتيب لتعليم الصغار، إما ملحقة بها أو خارجة عنها، غير أن بيوت الصحابة كانت أيضًا منارات للتعليم سواء لاستقبال طلاب العلم، أو لتعليم أهليها ذكورًا وإناثًا وخدمًا وموالي.
وكان أسبق البيوت في أداء ذلك الدور دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة قبل الهجرة، حيث كان الصحابة يجتمعون مستخفين بإسلامهم، و«دار القراء» بالمدينة، وقد نزلها عبدالله بن أم مكتوم لما هاجر إليها.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بتعليم جيرانهم وضيوفهم، ويحذر من التقصير في ذلك فقال: «ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم، ولا يعلمونهم، ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقهون، ولا يتعظون، والله ليعلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويعظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم، ويتفقهون، ويتفطَّنون، أو لأعاجلنهم العقوبة» (رواه الطبراني، والهيثمي).
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أسلم أحد من خارج المدينة وبدا منه حرص على التعلم دفع به إلى أصحابه ليعلموه، ومن الطبيعي في هذا وذاك أن تنفتح بيوت هؤلاء المخاطبين للتعلم والتعليم.
وروى أبو بكر بن أبي موسى الأشعري أن أباه أتى عمر بن الخطاب بعد العشاء فقال له عمر: ما جاء بك؟ قال: جئت أتحدث إليك، قال: هذه الساعة؟ قال: إنه فقه، فجلس عمر، فتحدثا طويلاً ثم إن أبا موسى قال: الصلاة يا أمير المؤمنين، قال: «إنا في صلاة»، وصدق أمير المؤمنين فالجلوس للعلم صلاة، ومدارسة العلم فريضة تفوق صلاة النافلة.
وحين أشكلت على عمر بن الخطاب إحدى مسائل المواريث، مشى بنفسه إلى منزل زيد بن ثابت، يستفهمه فيها.
وها هو ذا علي بن أبي طالب يوصي أصحابه أن يتزاوروا لدراسة العلم كيلا ينسوه، فيقول: «تزاوروا، وتذاكروا هذا الحديث؛ فإنكم إلا تفعلوا يدرس علمكم»؛ أي يضيع ويُنسى.
ويحكي عبدالله بن عباس جانبًا من نهمه للعلم، وكدِّه في تحصيله، فيقول: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير، فأبى عليه الأنصاري مستبعدًا أن يحتاج الناس إليهم وفيهم كبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقبل ابن عباس يسأل الصحابة عن الحديث، فربما أتى باب أحدهم وقت قيلولته، فيتوسَّد رداءه أمام بابه، تسفي الريح عليه التراب؛ فيخرج الصحابي فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟! فيقول: أنا أحق أن آتيك، فيسأله عن الحديث، قال ابن عباس: فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني.
واجتمع جماعة من تلاميذ ابن مسعود في منزله بالكوفة، يأخذون من علمه، فكان فيما قاله: إن معاذاً بن جبل كان أمة قانتًا لله حنيفًا، فظن أحد جلسائه أنه نسي، ويقصد إبراهيم عليه السلام، فقال ابن مسعود: وهل سمعتني ذكرت إبراهيم؟ إنا كنا نشبه معاذًا بإبراهيم، أو كان يُشبَّه به.
وقد يجلس تلاميذ ابن مسعود على باب بيته ينتظرون إذنه فيطول انتظارهم، فيعلم بمقامهم، ثم يخرج فيخبرهم أنه تأخر مخافة أن يملوا من كثرة دروسه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام، مخافة السآمة علينا.
ولم يمض كبير وقت حتى تطورت هذه المجالس التعليمية في البيوت، فغدت مجالس متخصصة، كما حدث عند ابن عباس، حيث كان يقصد بيته طلاب العلم من شتى التخصصات العلمية، قال تلميذه أبو صالح: لقد رأيت من ابن عباس مجلسًا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها فخرًا، لقد رأيت الناس اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر على أن يجيء ولا أن يذهب، وذكر أنه أخبره بما كان منهم، فأمره أن يأذن لمن يريد أن يسأل عن القرآن وعلومه، فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة، حتى قضوا نُهمتهم، ثم خرجوا، ثم أذن لمن أراد أن يسأل عن تفسير القرآن وتأويله، ثم أذن لمن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه، ثم لمن أراد أن يسأل عن الفرائض -يعني المواريث- ثم لمن أراد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام.
وفي داخل البيوت كان طلاب العلم يجدون مع العلم الكرم والتلطف وحسن الضيافة، وكان ابن عباس يقول لأصحابه إذا طال الدرس: أحمضوا -أي ميلوا إلى الفاكهة–وهاتوا من أشعاركم؛ فإن النفس تملُّ كما تمل الأبدان.
لقد كانت بيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم الموضع الأبرز للتعليم في حال النساء، وقد مارسن هذا الدور في حياته صلى الله عليه وسلم، وازداد بعد وفاته، مثل أم المؤمنين عائشة، وأم سلمة، رضي الله عنهما، واستمر الأمر عند العالمات من زوجات الصحابة، مثلما نجد عند أم الدرداء الصغرى امرأة أبي الدرداء.
ثم يأتي دور بعض غير المسلمين في تعليم المسلمين أمور الكتابة، مثل دور جفينة -وهو نصراني من أهل الحيرة- استقدمه سعد بن أبي وقاص إلى المدينة ليعلم أهلها الكتابة، ومثل هؤلاء لا يعلمون الناس في مساجدهم، بل ليس لهم مثل البيوت موضعًا يصلح للتعليم.
دور الأسرة في التعليم
وإذا كانت الكتاتيب مراكز لتعليم الصبيان على أيدي معلميهم ومؤدبيهم، فقد كانت البيوت مراكز لتعليمهم على أيدي آبائهم، حيث يتعلمون صغارًا الصلاة ومبادئ الإسلام والعبادات، تصديقًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: «علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر».
وقد بذل الصحابة جهدًا كبيرًا في تعليم أبنائهم، وإذا كانت مصادرنا التاريخية لا تسعفنا بأخبار كثيرة في هذا الجانب، فإن نتائجه العملية بارزة للعيان، فنجد أنفسنا أمام شخصيات عظيمة منهم، سواء كانوا من صغار الصحابة الذين كانوا أطفالاً أو صبيانًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو من كبار التابعين.
وها هو ذا أبو بكر يعلم ابنته عائشة رضي الله عنها الدرس الأخير وهو على فراش الموت، فقد جاءته ونَفَسه يتردد في صدره، فتمثلت هذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيد) (ق: 19)، وأوصاها بوصيته قبل موته رضوان الله عليه.
أما عمر بن الخطاب فكان تعليمه أهله وولده الزهد والورع وإعطاءه القدوة للمسلمين ضربًا من التعليم العملي، فلما أتاه طيب من المسك من البحرين قال عمر أمام امرأته عاتكة بنت زيد: وددت أني أجد امرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب؛ حتى أفرِّقه بين المسلمين، فقالت: أنا جيدة الوزن، فهلمّ أزن لك، قال: لا، إني أخشى أن تأخذيه هكذا، فتجعليه هكذا -وأدخل أصابعه في صدغيه- وتمسحين عنقك؛ فأصيب فضلاً من المسلمين.