الأخلاق لا تنفصل بحال من الأحوال عن الدين؛ فما يُسمى بالقيم الإنسانية هي قيم دينية بامتياز، والإنسانية الحقة لا تخرج عن الدين الحق قيد أنملة، ومن يفصل بين الدين والإنسانية ويزعم قيمًا خاصة بالإنسانية تفارق الدين فهو متبع هوى لا طالب حق، قال ابن قيم الجوزية: «الدين كله خُلق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الدين»(1)، وكما يتمايز الناس بالعبادات يتمايزون كذلك بالأخلاق.
والأخلاق منها ما هو قولي، ومنها ما هو فعلي؛ فالصدق -مثلاً- من الأخلاق القولية؛ إذ يظهر ذلك من خلال الأقوال، وألا يخالف قول المرء فعله، وألا يكذب، والحياء والعفة والأمانة -مثلاً- من الأخلاق الفعلية التي تظهر على السلوك حتى وإن لم يتكلم صاحبها.
ومن القواعد الأخلاقية الواردة في القرآن: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة: 83)، وهي من ضمن المواثيق والعهود التي أخذها الله تعالى على بني إسرائيل؛ قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة: 83).
وقد جعل الله جل ذكره هذا الخُلق بين التوحيد والعبادات؛ فالتوحيد يتمثل في قوله تعالى: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)، والعبادات تمثلت في قوله جلَّ ذكره: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ).
ومع الوالدين «إِحْسَانًا» ومع الناس «حُسْنًا»، وبذلك يكون قد ناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمُعيَّن من ذلك، وهو الصلاة والزكاة(2).
وللقول خطورة عظيمة؛ فبكلمة يؤمن المرء، وبكلمة يكفر آخر، وبكلمة تقوم الحروب وتُسفك الدماء، وبكلمة تنشأ المعاهدات والمصالحات.. إلخ.
وقد نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا بأن يكفَّ لسانه؛ فكأنه استصغر هذا الأمر واستهونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»(3).
و«الحُسن» في قوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن(4).
وفي الوصية بالوالدين قال جل ثناؤه: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) (العنكبوت: 8)، يعني بذلك أنه وصَّاه فيهما بجميع معاني الحُسن، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه، فقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)(5).
والقول الحَسَن معنى واسع؛ إذ إنه يشمل: لين القول والجانب، والكلام الطيب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحلم، والعفو، والصفح، والصدق.. إلخ(6).
والمعنى العام: خالقوا الناس بالخُلق الحسن، فكأنه يأمر بحسن المعاشرة، وحسن الخلق مع الناس(7).
وفي الآية: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) لما ذكر بعد عبادة الله الإحسان لمن ذكر، وكان أكثر المطلوب فيه الفعل من الصلة والإطعام والافتقاد، أعقب بالقول الحسن؛ ليجمع المأخوذ عليه الميثاق امتثال أمر الله تعالى في الأفعال والأقوال، فقال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، ولما كان القول سهل المرام؛ إذ هو بدل لفظ، لا مال، كان متعلقه بالناس عمومًا إذ لا ضرر على الإنسان في الإحسان إلى الناس بالقول الطيب(8).
فالله أمر بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور وذلك الإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي.
ويلاحظ في الآية عموم كلمة الناس؛ فالبعض يُحسن القول لمن يُحبه ويكون من دائرته الضيقة، ويُغلظ القول لمن لا يعرفه أو يخالفه في الرأي أو المذهب أو الدين.
وفي هذه الآية يُذكِّر الله تعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذ ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا(9)؛ فمن يخالف ذلك وأغلظ وأساء إلى الناس فمثله كمثل بني إسرائيل الذين أعرضوا عن العهد والميثاق الذي أخذه الله عليهم.
ولم يهمل الإسلام أحوال الناس وظروفهم؛ فالمسالم له طريقة في التعامل وهو دخوله تحت القاعدة العامة وهي: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.
فإن كان ظالمًا متجاوزًا لحده فالإساءة في حقه جائزة؛ لأنه يقع تحت القاعدة القرآنية: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ) (النساء: 148)؛ إذ لا بأس لمن ظُلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول(10).
فإن كان محاربًا معتديًا أثيمًا فالإغلاظ له ومحاربته هي السبيل؛ لأنه واقع تحت القاعدة القرآنية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة: 73).
______________________
(1) مدارج السالكين (2/ 307).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 317).
(3) أخرجه الترمذي.
(4) تفسير الطبري (2/ 295).
(5) المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
(6) انظر: تفسير الطبري (2/ 296)، وتفسير ابن كثير (1/ 317)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 127).
(7) بحر العلوم للسمرقندي (1/ 69).
(8) تفسير البحر المحيط (1/ 453).
(9) تفسير ابن كثير (1/ 316).
(10) تفسير القرطبي (6/ 1).