لا يكاد المسلم يسمع أو يقرأ آية من القرآن الكريم تتحدث عن الهداية أو السعادة أو النعيم المقيم إلا يسارع إلى التمسك بها ويبحث عن سبل تطبيقها في حياته، ومن أعظم المقامات التي يحرص المسلم على الوصول إليها أن يكون من المخبتين، والإخبات هو الخشوع، والمخبت هو الخاشع المتواضع(1)، قال الإمام الطبري في معنى قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (الحج: 34): الخاضعون لله بالطاعة، المذعنون له بالعبودية، المنيبون إليه بالتوبة(2).
أجر المخبتين
لقد وعد الله تعالى المخبتين بالهداية إلى الصراط المستقيم، حيث قال عز وجل: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الحج: 54)، كما وعدهم الله عز وجل بدخول الجنة والخلود فيها، حيث قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (هود: 23)، فإذا أدرك المسلم منزلة الإخبات فإنه يسارع إلى الخيرات، قال الإمام ابن القيم: «مَتَى اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ الْعَبْدِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِخْبَاتِ، ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ، وَعَلَتْ نَفْسُهُ؛ فَلَا يَفْرَحُ بِمَدْحِ النَّاسِ، وَلَا يَحْزَنُ لِذَمِّهِمْ، وَبَاشَرَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ قَلْبُهُ»(3).
وقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة الإخبات، فكان يدعو الله تعالى أن يكون من أهلها، وعلّم أمته من بعده أن يدعوا مثله، فقد روى أهل السنن من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ كان يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَاكِرًا، لَكَ ذَاكِرًا، لَكَ رَاهِبًا، لَكَ مِطْوَاعًا، لَكَ مُخْبِتًا..».
كيف نكون من المخبتين؟
لما كان الإخبات مقصداً إسلامياً وسبيلاً إلى الفوز بالثواب الجزيل والنعيم المقيم؛ كان من الواجب أن نتعرف على السبيل الذي يصل بنا إلى التحلي بالإخبات، وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذا السبيل في قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ {34} الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الحج)؛ ففي الآية توضيح العبادات التي تحقق الإخبات، وهي: وجل القلب عند ذكر الله، والصبر على المصائب، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزق الله، وفيما يأتي بيان أثر هذه العبادات في الوصول إلى الإخبات.
أولاً: وجل القلب عند ذكر الله:
بدأت الآية القرآنية في حديثها عن الطريق إلى الإخبات بالحديث عن وجل القلب عند ذكر الله تعالى، وتقديم وجل القلب على غيره من العبادات التي جاءت بعده –رغم أهميتها- يدل على أنه أساس لها، حيث إن الخوف من الله يورث العبد التذلل والانكسار والتواضع لله تعالى، وفي تقديم عمل القلب (الوجل) على عمل الجوارح دعم للحقيقة التي أكدها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها أن صلاح حال العبد يبدأ من صلاح قلبه، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح، ففي صحيح البخاري، ومسلم، عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
ثانياً: الصبر على المصائب:
لقد أتْبَعت الآية القرآنية وجل القلب بالحديث عن الصبر على المصيبة، وهي طريق إلى اكتساب التواضع وسكون القلب، ففي الصبر تسليم لقضاء الله تعالى، وهذا التسليم يدفع القلب دفعاً إلى الخشوع والتواضع والانكسار لله تعالى، ويضاف إلى هذا أن الله تعالى أمر بالاستعانة بالصبر مع الصلاة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 153).
كما أكد سبحانه وتعالى أن الصبر مع الصلاة يسهمان في إعانة العبد على الصلاح، وأن الاستعانة بهما صعبة إلا على الخاشعين، حيث قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)، فالخاشعون يتصفون بالقدرة على الصبر والصلاة والمداومة عليهما.
ثالثاً: إقامة الصلاة:
سبق التأكيد على أن إقامة الصلاة سبيل إلى الإعانة على الصلاح، وأنهما من الأمور اليسيرة على الخاشعين، كما أن الصلاة بما فيها من ركوع وسجود ودعاء؛ تدفع العبد دفعاً نحو الخشوع والسكون والتواضع لله تعالى، هذا إذا أحسن العبد إقامة الصلاة.
رابعاً: الإنفاق مما رزقك الله:
إذا بلغ الإنسان حالة من السعة والغنى في المال، فإن نفسه قد تحدثه بالتعالي على الناس والتكبر عليهم، ولهذا كان السبيل إلى الإخبات أن ينفق الغني مما رزقه الله، وفي التعبير القرآني أسرار متنوعة، فقد قال تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة: 3)، فالمال رزق من الله وليس للعبد فيه إلا الاستخلاف، كما أشارت الآية إلى عموم الإنفاق وليس مجرد أداء الزكاة؛ مما يفتح الباب أمام مريد الإخبات أن يستزيد من البذل والعطاء حتى يصل إلى إرضاء الله تعالى والفوز بجنته.
تؤدي هذه العبادات (الوجل، الصبر، الصلاة، الإنفاق) إلى إحداث حالة من حالات الانكسار في القلب، وتجلب له الرقة التي تغرس فيه التواضع، كما تسهم العبادات الأربع في إبراز آثار التواضع في الواقع الحياتي للإنسان، فكلها تدفع إلى السكون والخضوع لله تعالى.
_________________
(1) مقاييس اللغة: ابن فارس، (2/ 238)، وينظر: المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية (1/ 214).
(2) جامع البيان في تأويل آي القرآن: للإمام الطبري (18/ 628).
(3) مدارج السالكين: للإمام ابن قيم الجوزية (2/ 213).