حرص الصحابة في عصر الخلفاء الراشدين على توريث العلم ونشره، سواء بين صغار السن أو كباره من طالبيه، أو في الأمصار الجديدة والبلدان المفتوحة.
وقد أعطى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب القدوة في ذلك، فروى البخاري وغيره عن عبدالله بن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ «بدر»، فقال بعضهم: لمَ تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: «إنه ممن قد علمتم»، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم منِّي، فقال: ما تقولون في (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً) (النصر)، حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصَرَنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئًا، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه الله له: إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة، فذاك علامة أجلك: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً، قال عمر: «ما أعلم منها إلا ما تعلم»(1).
وروى الزهري قال: كان مجلس عمر ممتلئًا بالقراء؛ شبابًا وكهولاً، فربما استشارهم، ويقول: لا يمنع أحدكم حداثة سنّه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه، ولكن الله يضعه حيث يشاء(2).
وقد عقد الخطيب البغدادي في كتابه «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» بابًا عنوانه «من كان يخص بالتحديث الشبان ويؤثرهم على المشايخ وذوي الأسنان»، روى فيه آثارًا عدة في الحض على تعليم الشباب والصبر على تعليمهم، من ذلك ما رواه بسنده عن أحد تلاميذ حذيفة بن اليمان؛ قال: كنا جلوسا مع حذيفة قال: فمر رجل فقال له حذيفة: يا فلان، ما يمنعك أن تجالسنا؟ قال: والله ما يمنعني من ذاك إلا هؤلاء الشباب الذين هم حولك، قال: فغضب حذيفة وقال: أما سمعت الله تعالى يقول: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء: 60)، (إِنَّهُم فِتيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِم) (الكهف: 13)، وهل الخير إلا في الشباب؟(3).
أما عن الحرص على تعليم كبار السن، فقد عقد البخاري في صحيحه بابًا عنوانه «الاغتباط في العلم والحكمة»، ذكر فيه قول عمر بن الخطاب: «تفقهوا قبل أن تسودوا»، ثم عقَّب عليه قائلاً: وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي ﷺ في كبر سنهم(4).
وهو فهم سديد، لا ينفي أهمية التعليم في الصغر ورسوخه، قال الطرطوشي: ولا ينصبن لك عذرًا بما روي في بعض الأخبار مثل الذي يتعلم العلم في صغره كالنقش على الحجر، ومثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء.
وسمع الأحنف رجلاً يقول: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، فقال الأحنف: الكبير أكبر عقلاً ولكنه أشغل قلباً، ففحص عن المعنى ونبه على العلة، وقد كان أصحاب النبي ﷺ يسلمون شيوخًا وكهولاً وأحداثًا، وكانوا يتعلمون العلم والقرآن والسنن، وهم بحور العلم، وأطواد الحكمة والفقه، غير أن العلم في الصغر أرسخ أصولاً وأبسق فروعًا، وليس إذا لم يحوه كله يفته كله، قال رجل لأبي هريرة: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه، قال أبو هريرة: كفى يتركك له تضييعاً(5).
البعثات العلمية وتعليم الأمصار
كان إرسال الدعاة للدعوة إلى الإسلام أمرًا مقررًا منذ عصر النبوة، ثم تنقطع أخبار إرسال البعثات التعليمية في خلافة أبي بكر، وربما يرجع ذلك إلى أحداث حركة الردة الخطيرة حيث ارتد معظم العرب، ولم تعد البوادي آمنة، ثم تنشط هذه البعثات بعد إعادة توحيد الجزيرة والتوسع في الفتوح في خلافة عمر رضي الله عنه(6).
وقد مر بنا أن عمر كان بأمر عماله بتعليم رعيتهم دينهم وسُنة نبيهم، ويقول: «اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم ﷺ، ويقسموا فيأهم..»(7).
وقد بعث عمر عشرة من الصحابة ليفقهوا الناس بالبصرة(8)، وذلك منذ بدء سكنى أهلها بها سنة 17هـ ، إذ إنه لما ولى أبا موسى الأشعري في السنة نفسها قال أبو موسى: أعنِّي بعدة من أصحاب رسول الله ﷺ، فإنهم في هذه الأمة كالملح، فقال له: خذ من أحببت، فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً، منهم: أنس بن مالك، وعمران بن حصين(9).
أما الكوفة، فقد نزلها لفيف من الصحابة، بلغ ثلاثمائة من أصحاب الشجرة (بيعة الحديبية)، وسبعين من أهل «بدر»(10)، وبعث إليها عمر، عبدالله بن مسعود ليعلم أهلها، وكتب إليهم كتابًا جاء فيه: «أما بعد، فإني بعثت إليكم عماراً بن ياسر أميرًا، وابن مسعود معلمًا ووزيرًا، وقد جعلت ابن مسعود على بيت مالكم، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد من أهل «بدر»، فاسمعوا لهما وأطيعوا، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بابن أم عبد (يعني ابن مسعود) على نفسي(11).
وكان فيمن وجههم عمر إلى الكوفة أحد عشر رجلاً من الأنصار(12) شيعهم عمر، وأوصاهم ألا يشغلوا الناس عن قراءة القرآن وفهمه بشيء(13).
وكتب يزيد بن أبي سفيان إلى عمر منذ بداية خلافته: إن أهل الشام كثير، وقد احتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم، فأرسل إليه عمر معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبا الدرداء(14).
وتولى أبو الدرداء قضاء دمشق، وظل بها حتى وفاته عام 32هـ، ونشر بها علمًا وافرًا، وكانت له حلقاته العلمية، وطريقته الفريدة في إدارتها، وقد بلغ عدد من يقرأ في مجلسه ألفًا وستمائة ونيفًا، فكان يقسمهم عشرات، مع كل عشرة مقرئ ماهر بقراءته(15)، وعظمت مكانة أبي الدرداء حتى قال عنه يزيد بن معاوية: إن أبا الدرداء من الفقهاء العلماء، الذين يشفون من الداء(16)، وروى الليث بن سعد عن فلان قال؛ رأيت أبا الدرداء دخل المسجد ومعه الأتباع، مثل ما يكون مع السلطان وهم يسألونه عن العلم(17).
وكان كذلك معاذ بن جبل، يجتمع عليه الناس فيصدرون عن رأيه، فيصيبون منه علمًا وحلمًا وكرمًا(18).
________________________
(1) البخاري: الصحيح (5/ 149)، (6/ 179)، الحاكم: المستدرك (5/ 307)
(2) المتقي الهندي: كنز العمال (10/ 253)، ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 619).
(3) الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/ 310).
(4) صحيح البخاري (1/ 25).
(5) الطرطوشي: سراج الملوك، ص 64.
(6) د. أكرم ضياء العمري: عصر الخلافة الراشدة، ص 296.
(7) أبو يوسف: الخراج، ص 14، ابن حنبل: المسند (1/ 420).
(8) ابن أبي عاصم: الآحاد والمثاني (2/ 325)، ابن عبد البر: الاستيعاب (3/ 996).
(9) ابن الأثير: الكامل في التاريخ (2/ 363).
(10) ابن سعد: المصدر السابق (6/ 9).
(11) ابن سعد: المصدر السابق (3/ 255)، (6/ 8).
(12) ابن سعد: المصدر السابق (6/ 17).
(13) ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 999).
(14) ابن عساكر: تاريخ دمشق (26/ 194).
(15) ابن عساكر: المصدر السابق (1/ 328).
(16) الذهبي: تذكرة الحفاظ (1/ 23).
(17) المصدر السابق (1/ 24).
(18) ابن سعد: المصدر السابق (2/ 586، 598).