في خضم ما يحدث للمسلمين من مآسٍ، ظهرت دعوة خبيثة يرددها هؤلاء الذين لا علاقة لهم بفقه الواقع ولا بفقه المآلات تدعو المسلمين إلى اعتزال الناس والتفرغ للعبادة، واستند هؤلاء دون دراية منهم إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة: 150).
ولا يخفى على كل عاقل أن اعتزال الناس عائق خطير من العوائق التي تتسبب في قعود المسلم عن مواصلة السير في الطريق إلى الله تعالى، كما أنه معطل عن أداء الرسالة العظمى التي تشرفت بها الأمة المسلمة، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).
واعتزال الناس الذي نقصده هنا، هو إيثار حياة التفرد على حياة الجماعة، وذلك بأن يكتفي المسلم بإقامة الإسلام في نفسه، غير مهتم بغيره من المسلمين، وبما هم فيه من آلام وضياع وهلكة، وهذا ما سماه علماء الإسلام بالرهبنة.
قال عبدالحميد بن باديس: «وكانت الرهبنة فيمن قبلنا بالانقطاع عن الناس والتفرغ للعبادة، ابتدعها أهلها دون أن يكتبها الله عليهم كما في سورة الحديد، ثم جاء الإسلام فشرع الجمعة والجماعة فأبطل الانقطاع عن الناس للعبادة إلا من فرَّ بدينه أيام الفتنة خوفاً على نفسه منها»(1).
عاقبة الرهبنة واعتزال الناس
من أخطر هذه العواقب جهل المسلم بنفسه؛ ذلك أن الإنسان منا يحتاج إلى غيره ليعينه على معرفة أبعاد ومعالم شخصيته، فلا يستطيع الإنسان أن يكتشف ما في شخصيته من أثرة وأنانية أو إيثار وتعاون، ومن صدق وكذب، أو أمانة وخيانة، ومن نظام أو فوضى إلا إذا عاش بين الناس وخالطهم، وهذا ما لفت إليه الرسول صلى الله عليه وسلم الأنظار حينما قال: «المؤمن مرآة أخيه، المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه» (أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»، 239).
وعندما يعتزل المسلم الناس يُحْرَم من المعين الذي يأخذ بيده، ويساعده على إصلاح عيوبه، ذلك أن الإنسان قد يهتدي إلى عيوب نفسه، لكنه يعجز بمفرده عن إصلاح وتقويم هذه العيوب، فلا بد له من معين، يعينه على إصلاح نفسه.
كذلك من العواقب، سيطرة اليأس والقنوط على النفس، الأمر الذي قد ينتهي به إلى القعود، ذلك أن الشيطان كثيراً ما يثير في نفس المسلم التساؤلات التي قد يعجز عن الإجابة عنها بمفرده، على نحو: ما المخرج وأعداء الإسلام في الداخل والخارج قد أحكموا خناق العالم الإسلامي، ولديهم خطط ماكرة وأساليب خبيثة؟!
ومن أعظم عواقب اعتزال الناس سهولة ضرب العمل الإسلامي والقضاء عليه نظراً لضعفه بسبب تفرق العاملين به وعدم تضامنهم، ولعل ذلك هو السر في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران: 103).
أسباب الرهبنة واعتزال الناس
لإصابة المسلم بالرهبنة واعتزاله للناس أسباب كثيرة، نذكر منها:
– الوقوف عند بعض النصوص الشرعية المرغبة في العزلة، مع الغفلة عن موقعها من النصوص الأخرى الداعية إلى حياة الجماعة، فقد جاءت بعض النصوص الشرعية مادحة للعزلة، ومرغبة فيها كقوله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (أخرجه البخاري).
– الظن بأن الاختلاط بالناس يلغي ذاتية الفرد، ويؤثر على شخصيته مع الغفلة عن منهج الإسلام في التوفيق بين الفردية والعمل الجماعي.
– التذرع بأن مخالطة الناس تشغل عن التفرغ للعبادة مع الغفلة عن المفهوم الصحيح للعبادة، إذ المفهوم الصحيح للعبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من القوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج عبادة، والدعاء والاستغفار والذكر وتلاوة القرآن عبادة، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام عبادة والوفاء بالعهود عبادة والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين عبادة، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والخادم والرحمة بالضعيف والرفق بالحيوان عبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء في رحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك كله عبادة»(2).
– الاعتذار بانتشار الشر والفساد مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر والفساد، إذ إن دور المسلم في هذه الحال أن ينشط للمقاومة بكل الأساليب المتاحة، والوسائل الممكنة ولا يلجأ إلى العزلة إلا عند تمكن الداء وعجز الوسائل وخوف الفتنة.
– صحبة نفر من المسلمين منهجهم العزلة، وسيرتهم التفرد نظراً لأن المرء شديد التأثر بقرينه، لا سيما إذا كان هذا القرين ذا شخصية مؤثرة وممن يُقتدى به.
– الغفلة عن الآثار المترتبة على العزلة سواء منها ما يتصل بالفرد أو بالعمل الإسلامي.
علاج الرهبنة واعتزال الناس
يكمن علاج الرهبنة واعتزال الناس فيما يلي:
1- الفهم التام للعلاقة أو الصلة القائمة بين النصوص الشرعية المرغبة في العزلة والأخرى الداعية إلى مخالطة الناس ولزوم الجماعة، فذلك كفيل بانتزاع المسلم إن كان صادقاً مع نفسه من حياة العزلة وإلقائه في أحضان العمل الجماعي.
2- الإلمام الدقيق بمنهج الإسلام في التوفيق بين العمل الفردي والعمل الجماعي، فإن ذلك كفيل بدفع المسلم إلى أن يعيش في أحضان الجماعة المسلمة في الوقت الذي يحافظ فيه على ذاتيته أو فرديته.
3- الوقوف على المفهوم الصحيح للعبادة، فإنه كاف في القضاء على العزلة والحمل على ملازمة الجماعة ومخالطة الناس دون أن يكون هناك أدنى حرج في أن الأوقات تنفق في غير الطاعة والعبادة.
4- مجاهدة النفس وأخذها دوماً بالحزم لئلا تسيطر عليها الأهواء وتستبد بها الشهوات فتدفعها إلى الاعتزال والفرار من تكاليف مخالطة العمل الجماعي والعيش بين الناس.
5- فهم الدور الواجب على المسلم حين ينتشر الشر ويعم الفساد، فإن ذلك كاف في إخراج المسلم من عزلته وحمله على مخالطة الناس واقتحام الخطوب من أجل القضاء على الشر ومقاومة الفساد.
6- التخلص من صحبة هؤلاء الذين يميلون إلى العزلة، ويدعون إليها، مع ملازمة صف العاملين الذين يدعون إلى مخالطة الناس والصبر على أذاهم(3).
____________________
(1) مجالس التذكير من حديث البشير النذير، عبدالحميد محمد بن باديس (1/ 104).
(2) كتاب شرح لامية ابن تيمية، عمر بن سعود بن فهد العيد، ص17، بتصرف
(3) آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح (1/ 103)، بتصرف.