في عالمنا المعاصر، تتسارع التغيرات وتتباين الاتجاهات، حتى باتت الأسرة تواجه زخماً من التحديات لم تعهده من قبل، فالقدوة الوالدية، التي لطالما كانت الحصن الأول في بناء شخصية الأبناء وإرساء القيم السامية، أصبحت مهددة بفعل العولمة الرقمية التي أتاحت لأبنائنا الانفتاح على عوالم متعددة وثقافات متنوعة، مع كل هذا الانفتاح، أخذت وسائل التواصل الاجتماعي تمارس سطوتها لتؤثر في وجدان الأبناء وتشكّل جزءاً من هويتهم، متجاوزة بذلك دور الأسرة التقليدي، لكن، هل فقدت القدوة الوالدية تأثيرها بالكامل؟ وهل يمكن للوالدين أن يستعيدا مكانتهما التربوية في ظل هذا الزخم؟
إن القدوة الوالدية ليست مجرد نصائح تُقال ولا توجيهات تُفرض، بل هي أفعال تُمارَس ومواقف تُجسَّد أمام الأبناء يوماً بعد يوم، فالطفل ينظر بعينيه ويتأمل بتجربته ما يراه من والديه، فيتعلم الصدق حين يرى أفعالهما تتطابق مع أقوالهما، ويكتسب الاحترام من خلال تعاملهما الراقي مع الآخرين، ويتشرّب الأمانة حين يلاحظ مدى حرصهما على أداء واجباتهما بإخلاص.
هذه القيم التي تُزرع في البيت تشكّل قاعدة البناء لشخصية الأبناء، وتنعكس على استقرارهم النفسي وسلوكهم الاجتماعي، ومما لا شك فيه أن الأبناء الذين ينشؤون تحت مظلة هذه القيم المتجسدة في القدوة الوالدية؛ يصبحون أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة، وأكثر ثقة في اتخاذ قراراتهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»، فإن الوالدين هما الحجر الأساس في صياغة وجدان الأبناء وتوجيههم نحو القيم الأصيلة.
ولكن، لم يعد هذا الدور ميسراً كما كان في السابق، فقد شهدت السنوات الأخيرة تغيرات جوهرية أثرت في طبيعة العلاقة بين الآباء وأبنائهم، ولعلّ أبرز هذه التحديات الغزو الرقمي الذي فرضته وسائل التواصل الاجتماعي، هذه المنصات الرقمية، بقدرتها على تقديم قدوات بديلة وأحياناً مشوهة، بدأت تسحب البساط من تحت أقدام الوالدين، ولعلّ الإشكال الأكبر يكمن في أن هذه القدوات الرقمية لا تخضع لقيم الأسرة ولا تمثل موروثاتها الثقافية، نضف إلى ذلك، ضغط الحياة اليومية والانشغال المفرط بالعمل؛ ما جعل الكثير من الآباء غائبين عن أبنائهم، جسدياً ومعنوياً.
هذا الغياب لم يخلق فجوة وحسب، بل أدى إلى تضارب عميق بين ما يعيشه الأبناء داخل أسرهم وما يرونه على شاشات هواتفهم، ففي حين تقدم وسائل التواصل صورة مثالية للحياة الأسرية، قد تبدو هذه الصورة بعيدة عن الواقع الذي يعيشه الطفل في منزله؛ ما يخلق لديه شعوراً بالإحباط وعدم الرضا، هذا التضارب يدفع البعض للتمرد على القيم الأسرية، أو للبحث عن بدائل أخرى تمنحهم شعوراً بالانتماء، والمفارقة أن هذه البدائل قد تكون نماذج سلبية تتنافى مع ما يحاول الوالدان غرسه في أبنائهما؛ ما يؤدي إلى اضطرابات في السلوك والهوية.
إن القيم التي تنتقل من الوالدين إلى الأبناء هي الأساس الذي يُبنى عليه استقرار المجتمع، فالصدق، والأمانة، والمسؤولية، والاحترام ليست شعارات تُلقّن، بل مبادئ تُجسّد في كل فعل يومي، عندما يُظهر الوالدان الالتزام بهذه القيم أمام أبنائهما، فإنهما يُرسّخان لديهم مفاهيم الاستقامة والنزاهة، ولعلّ من أهم المهارات التي تنتقل عبر القدوة الوالدية مهارات التواصل الفعّال وإدارة الوقت وتحمل المسؤولية، الأبناء الذين يرون آباءهم يوازنون بين عملهم وحياتهم الأسرية، ويتعاملون مع مشكلاتهم بحكمة، يصبحون أكثر قدرة على محاكاة هذه السلوكيات في حياتهم الخاصة.
ولكن، ما الذي يحدث عندما تغيب القدوة الوالدية أو تتراجع؟ إن الأثر هنا لا يقتصر على الأبناء وحدهم، بل يتجاوزهم ليضرب جذور الأسرة والمجتمع ككل، الأبناء الذين يفتقدون نموذجاً يحتذون به في منازلهم، يصبحون أكثر عرضة للانجراف وراء المؤثرات الخارجية، سواء كانت تلك المؤثرات من أقرانهم أو من وسائل الإعلام، هذه الحالة من الفراغ القيمي تؤدي إلى انحرافات سلوكية أو ضعف في الثقة بالنفس؛ ما ينعكس سلباً على استقرار الأسرة، وبالتالي على استقرار المجتمع بأسره، ولعلّنا اليوم نلحظ مظاهر هذا الفراغ في بعض المجتمعات، من تزايد النزاعات الأسرية إلى ارتفاع معدلات الجرائم وضعف القيم الأخلاقية.
رغم ذلك، فإن استعادة دور القدوة الوالدية ليست أمراً مستحيلاً، البداية تكمن في وعي الوالدين بدورهما المحوري في حياة أبنائهما، هذا الوعي يتطلب جهداً للتعلم المستمر حول الأساليب التربوية الفعالة، والتعامل مع التحديات التي يفرضها العصر الرقمي، كما أن تخصيص وقت يومي للحوار مع الأبناء والاستماع لمشكلاتهم واهتماماتهم، بعيداً عن الأجهزة الإلكترونية؛ خطوة أساسية لإعادة بناء جسور الثقة.
لكن لا يكفي الحوار وحده، بل لا بد من أن تكون أفعال الوالدين النموذج الذي يُحتذى به، عندما يلتزم الوالدان بالقيم التي يريدان غرسها، مثل الصدق والنزاهة، فإنهما يرسّخان هذه القيم في وجدان أبنائهما.
إن القدوة الوالدية ليست ترفاً، بل ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها في بناء جيل متزن قادر على مواجهة تحديات العصر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»، وهذه المسؤولية تفرض علينا أن نعيد تقييم أدوارنا كآباء وأمهات، وأن نرتقي بممارساتنا التربوية لتلائم متطلبات العصر.