ترتبط سلامة العقل، واستخدام كل قدراته في الوعي والإدراك بسلامة الصحة النفسية للإنسان، حيث تتعارض تمامًا الأمراض النفسية مع وجود عقل سليم؛ وبالتالي امتلاك وعي وإدراك قادر على إنتاج أفكار تنفع الإنسان ومحيطه العربي، بل والإنساني أيضًا.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن اعتلالات الصحة النفسية تشمل الاضطرابات النفسية وحالات الإعاقة النفسية الاجتماعية، فضلاً عن الحالات النفسية الأخرى المرتبطة بالضيق الشديد أو ضعف الأداء أو خطر إيذاء النفس، ومن المرجح أن يعاني الأشخاص المصابون باعتلالات الصحة النفسية من تدنّي مستويات الراحة النفسية.
وتجتهد مراكز بحثية كثيرة في هذا المجال لحراسة الصحة النفسية للإنسان حماية لعقله بداية من مراحل الطفولة، وإلى أن يسلم هذا الإنسان روحه إلى خالقه؛ لأن سلامة الصحة النفسية هي متلازمة مع عقل سليم نافع ومفيد لمجتمعه، وفي هذا الإطار أنتجت الكثير من البحوث التي تربط بين فشل العقل وسلامة الصحة النفسية، خاصة في مجالات الغضب، الاكتئاب، والانفعالات، وبعض الأمراض الأخرى، ناهيك عن أن أمراضاً أخرى مثل الوسواس القهري تخرج العقل بكامله من نطاق الإدراك والتفكير.
وتحتاج الأمة العربية إلى خطط علمية موسعة يتم تطبيقها على الإنسان العربي منذ نشأته وإلى نهاية حياته، ترتكز على علاجه الاستباقي من الإصابة بالأمراض النفسية لمنع حصول إرهاق، أو حتى إتلاف للعقل، وبالتالي يتحول هذا الإنسان من نافع للمجتمع إلى ضار لنفسه ولمن حوله.
ماهية الصحة النفسية
هناك تعريفات كثيرة للصحة النفسية تربط بين الأداء السليم للعقل ومستوى الصحة النفسية وتحقيق الرفاهية والسعادة للإنسان، ولكننا نقتصر هنا على تعريف جامع لمنظمة الصحة العالمية، التي تقول: إن الصحة النفسية حالة من الرفاه النفسي تمكّن الشخص من مواجهة ضغوط الحياة، وتحقيق إمكاناته، والتعلّم والعمل بشكل جيد، والمساهمة في مجتمعه المحلي، وهي جزء لا يتجزأ من الصحة والرفاه اللذين يدعمان قدراتنا الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات وإقامة العلاقات وتشكيل العالم الذي نعيش فيه.
وهكذا توضح المنظمة الربط الذي لا ينفصل بين اتخاذ القرارات السليمة والاستمتاع بالحياة وإفادة المجتمع، ومستوى الصحة النفسية باعتبارها اشتراطًا لتحقيق كل ذلك، وإعمال لكامل القدرات العقلية لصالح الفرد والمجتمع.
ومن منظور طبي، فإن الأمراض والضغوطات النفسية تؤثر على مناطق معينة من الدماغ، حيث قد تسبب ضموراً واضطرابات في تكوين الخلايا العصبية وفروعها، كما قد تسبب تقليل عدد الخلايا العصبية وحجم بعض الأجزاء في الدماغ، وهذا قد يسبب اضطرابات في الذاكرة واضطرابات في القدرة على الكلام والتعبير، والقدرة على التعلم.
تعطيل العقل
كثيرة تلك البحوث والدراسات التي تربط بين الغضب باعتباره اعتلالًا نفسيًا، وذهاب العقل، وتلك الآثار التي تحول الإنسان الغاضب إلى شخص مجرم، ضار للمجتمع، أو انفعالي لا يمكن أن يضيف نفعًا ذا قيمة للمجتمع، وحذرت تلك البحوث والدراسات من هؤلاء الذين تعتريهم نوبات غضب مستمرة، وطويلة، ومدى خطورتهم على محيطهم الاجتماعي، والغضب هو النقيض للحكمة، وضمن الاشتراطات الصحيحة للقيادة والإدارة هو اتسام من يتولاها بالحكمة والخبرة والابتعاد عن الغضب حتى يستطيع أن يتخذ القرارات السليمة بعيدًا عن الغضب والانفعالات، وهي أيضًا شروط لكل شخص سليم داخل المجتمع لتشكيل مجتمع تتغلب على طبيعته الصحية النفسية، ومن ثم التأثير والتأثر بحركة الحضارة العالمية، واتخاذ القرارات السليمة في أوقاتها المناسبة.
وفيما يخص الغضب كنموذج للاعتلالات السائدة في مجتمعاتنا التي تؤثر على كافة مناحي الحياة، أوردت المجلة الطبية البريطانية مقالًا للدكتور عثمان العصفور، عضو الجمعية البريطانية لإدارة الغضب المتخصص في علم النفس، قال فيه: إن الغضب جزء من الجنون المؤقت؛ أي ذهاب العقل، وأوضح أن الفرد حينما يغضب يرتفع ضغطه، ويجد صعوبة في التنفس؛ إذ يستنشق ما نسبته 20% من الأكسجين بسبب نوبات الغضب، أما في الحالات العادية فيستنشق نسبة 80%؛ بمعنى أن هذا الانفعال الحاد يحجب نسبة الأكسجين المتدفق إلى الرأس؛ مما يسبب صداعًا للناس يجعلهم في حالة عدم استقرار، وتابع: حينما يغضب الإنسان تنشط لديه الهرمونات ويصبح في حالة اضطراب غير طبيعي بسبب تعرضه لمؤثر خارجي مثل عبارة جارحة أو موقف معين تسبب في إيذائه.
ولم يغفل ديننا الحنيف تأثير هذا الاعتلال النفسي على الحياة، وخطورته على المجتمع، حيث جاء عن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «لا تغضب»، فردد مراراً، قال: «لا تغضب» (رواه البخاري)، وهذا الرجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب»؛ لأن الإنسان إذا غضب يصدر منه من القول ما لا يليق، ومن الفعل ما لا يليق، ومن التصرفات حركات وتغير وتهيج وأمور كثيرة لا تتفق مع العقل، ولا تستجيب لمقتضيات التصرف السليم النافع له ولمجتمعه، فعندما يهيمن الغضب على الإنسان يغيب عقله ويتحول إلى طاقة سلبية وهدامة؛ لذا أوصانا نبينا الكريم بألا نغضب، وفي حديث مكمل للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، نصح المسلم بتغيير الوضعية التي هو عليها حال غضبه، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع».
ومن مشكلات الصحة النفسية التي تعيق إعمال العقل بشكل طبيعي، وتؤثر على جودة القرار ونجاعته، هو الخوف المفرط، الذي يتلبس صاحبه، سواء كان خوفًا من الفشل، أو من السلطة، أو من حوادث كثيرة تلاحق صاحبها، كل هذا يؤثر بشكل مباشر على أداء العقل واندماج الإنسان في المجتمع، والتفاعل معه، والمشاركة الفاعلة في تقدمه، والخوف هو أحد الأمراض التي تحتاج إلى علاجات نفسية اجتماعية سريعة قبل سيطرتها على العقل البشري، التي قد تكون أحياناً أحد الابتلاءات التي يختبر بها الله الإنسان؛ حيث قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، وهو ما يدل على التأثير الكبير للخوف الذي يحتاج إلى مداواة نفسية واجتماعية مع التحلي بالصبر الإيماني حتى لا يتم الحفاظ على سلامة عقل المبتلى.
كما أن الحزن، الذي قد ينجم عن فقدان شخص عزيز أو الفشل في تحقيق الأهداف، يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالعزلة والانطواء؛ ما يعوق التفاعل الاجتماعي، في حين أن القلق في أغلب مراحله مرض نفسي يرتبط بالمشاعر والمزاج العام للشخص، ويصيب أحياناً بالاضطراب وعدم القدرة على اتخاذ القرار.
وتؤدي هذه الانفعالات السلبية إلى تقليل قدرة الفرد على التفكير العقلاني، وزيادة مستويات القلق والإجهاد، وهو ما ينعكس سلبًا على جودة حياته العامة.
كل هذا يتطلب من مجتمعنا العربي رصد الاعتلالات النفسية المعيقة للعقل، ومحاولة علاجها استباقياً عبر التوعية بأخطارها للنشء في المدارس والجامعات، ولكافة فئات المجتمع في وسائل الإعلام المختلفة، على أن يتم كل ذلك من منطلق قناعة راسخة أن العقل السليم هو مفتاح تفدم الأمم، والحفاظ عليه ضرورة قصوى.