لم تكن الأزمة الليبية وليدة اليوم أو البارحة، بل هي نتيجة حتمية لنكبة سياسية واقتصادية واجتماعية أصيبت بها صبيحة 1 سبتمبر 1969م، ببيان انقلاب سبتمبر العسكري، الذي استمرت ليبيا تعاني ويلاته طوال 4 عقود سوداء، لم ترَ فيها ازدهارًا ولا استقرارًا إلى أن أزاحته وآثاره ثورة فبراير 2011م، التي لم يكتب لها الاستقرار، ولم تتمكن من تحقيق أهدافها ولا شعاراتها؛ لعدة أسباب يمكن اعتبارها مكامن الداء الذي أسهم في استمرار الأزمة الليبية وعدم وصول الثورة لتحقيق أهدافها، التي قامت من أجلها، مع التأكيد أن أهم سبب هو تلك التركة الثقيلة التي خلفها اللانظام السابق من عدم وجود نظام سياسي ثابت له مؤسساته، ولا نظام اقتصادي حقيقي مقنن مع تفكيك المنظومة الاجتماعية وتعزيز ثقافة القبلية والجهوية بين أبناء المجتمع، وقيام إدارة الدولة على القبلية والجهوية -مع تطبيق مبدأ الولاء قبل الكفاءة- الممسوكة خيوطها بيد مستبد واحد جعلها دمى يحركها كيف ومتى وإلى أين يشاء!
وبعد نجاح الثورة في القضاء على الرأس وإزاحته، لم تتمكن من التخلص أو إزاحة مخلفات الماضي المباد الشكل، وتغلغل المضمون في عقول وتفكير الكثير من أبناء ليبيا؛ حتى ممن شارك في الثورة وإزاحة الرأس.
بل نجد الكثير من المحسوبين على الثورة يلعنون العهد البائد ويمارسون أفعاله التي خرجوا منددين بها وثائرين عليها ومطالبين بإزالتها.
وكانت تداعيات هذه الحالة مؤسفة جدًا؛ لأنها سببت في عدم استقرار الدولة ونشوب حروب أهلية وتضعضع الوضع الاقتصادي، وازدادت الأمور سوءًا عما كانت عليه، بل زادت حدة، وكان أثرها على المواطن البسيط خاصة بعد أن استفحل وساد مبدأ «القبيلة والغلبة والغنيمة»، وأصبحت البلاد تحت سيطرة ما يمكن أن نسميه حالة «المليشيا أو الدولة الغنيمة».
ومما تقدم يمكن أن نحدد أسباب ومكامن الداء في استمرار الأزمة في ليبيا في 3 أسباب رئيسة تندرج تحتها كل التفاصيل الجزئية التي كانت وما زالت سببًا في استمرار الأزمة ولن تنهض ليبيا من كبوتها وتتحرر من أزمتها وتحقق نهضتها إلا بعد معالجة هذه الأسباب وهي على النحو التالي:
أولًا: عبثية السلطة التشريعية:
تعرضت السلطة التشريعية لضربة قاصمة عقب نكبة ليبيا بانقلاب سبتمبر 1969م، الذي عطل الحياة الدستورية بتعطيل العمل بدستور ليبيا عام 1951م، والمعدل سنة 1963م وعطل الحياة النيابية فترة من الزمن، ثم وضع ما عرف بمؤتمر الشعب العام بمثابة مجلس تشريعي شكلي لا قيمة ولا وزن ولا سلطة له أمام سلطة القذافي الذي تعتبر كلماته وخطاباته وتوجيهاته ومحاضراته، بل حتى تصريحاته الصحفية –وكل شطحاته– قوانين فوق دستورية يجب العمل بها فورًا ودون تقنين ولا حتى نقاش ومن يخالفها فمصيره معروف.
واستمرت هذه الحال حتى اندلاع ثورة فبراير 2011م التي كان أهم مطالبها إقامة دولة القانون، ومن مقتضيات دولة القانون وجود سلطة تشريعية تعمل وفق الدستور وتشرع القوانين الناظمة للحياة العامة في الدولة.
فنشأ المؤتمر الوطني العام الذي انبثق عن انتخابات حرة هي الأولى بعد فترة ناهزت 5 عقود من غياب الحياة النيابية –السلطة التشريعية الحقيقية في الدولة– عام 2012م، ولكن كانت ظروف ولادة هذه السلطة التشريعية قاسية وغير مستقرة، وهي مرحلة انفلات أمني مع سقوط كامل لجميع مؤسسات الدولة وصاحبه صراع سياسي شديد استخدمت فيه كل وسائل كسر العظام بين الأطياف السياسية المتنافسة؛ مما أفقده قدرته على أن يحقق الهدف الأساسي؛ وهو العمل على ترسيخ قوانين انتخابية فاعلة، وانتخاب سلطة تنفيذية متجانسة وقادرة.
ولكن أتت الريح بما لا يشتهي الليبيون، وسيطر الخلاف والتنازع بين أعضاء المؤتمر الوطني –السلطة التشريعية– ما انعكس على ولادة سلطات تنفيذية عاجزة وغير متجانسة طوال فترته التي لحقته فيه سلطة تشريعية جديدة وهي البرلمان الذي انتخبه الليبيون عام 2013م في محاولة لاستدراك وتصحيح الأخطاء، التي وقعت في فترة المؤتمر الوطني.
ولكن كان حظ سفن البرلمان أسوأ من سفن المؤتمر، حيث كانت الرياح أشد عصفًا والاختيارات كانت أقل كفاءة وخبرة من اختيارات المؤتمر في ظل نزاع تحول إلى عسكري حاد جعل إمكانية عمل البرلمان أضعف بكثير من عجز المؤتمر، بل زاد الطين بلة والأمر سوءًا انقسام البرلمان على بعضه في تموضع فريق داعم للحرب الأهلية ومُشرعن لها، وفريق رافض وواقف ضدها، مما جعل البرلمان عاجزًا عن أن يكون جامعًا لكل الليبيين بقدر ما كانت صلاحياته تنحصر في تنفيذ قراراته على الأرض، التي تسيطر عليها القوات العسكرية التي يناصرها مع فقدانه الوصول في أغلب جلساته إلى النصاب القانوني للجلسات مع اتهام بعض الأعضاء لرئاسة البرلمان بالانفراد بالقرارات دون عرضها في جلسات البرلمان.
وهو ما أنتج عدة قرارات متناقضة وغير مقبولة من جهات مناوئة لرئاسة المجلس أو المناطق التي لا تقع تحت سيطرة القوة العسكرية المتحالفة مع رئاسة وبعض أعضاء البرلمان وتلقى رفضاً تاماً، بل نزاع مسلح مع بعض المناطق والمجموعات التي يقع أغلبها في غرب البلاد وخاصة في العاصمة طرابلس، مثل حكومة الوحدة الوطنية؛ حكومة الدبيبة، ودخول المجلس الرئاسي على الخط في الآونة الأخير.
وكذلك المجموعات العسكرية المتمركزة في العاصمة ولها نفوذ ليس من السهل أن تتنازل عنه أو تفرط فيه، وهذا ما يكاد يجعل السلطة التشريعية الحالية سلطة صراع وخلاف وتموضع في صف جانب ضد جانب آخر؛ وهو ما أثر في أدائها وأفقدها فاعليتها لعدم قدرتها على إنتاج قوانين توافقية والوقوف مع جميع الأطراف موفقًا واحدًا مرتبطًا بمصلحة الوطن دون الاصطفاف لتغليب طرف دون طرف، كما فعل عندما أيد رئيس البرلمان الهجوم العسكري الذي قامت به قوات خليفة حفتر على العاصمة طرابلس في أبريل 2019م، وهو ما جعل القوى السياسية والعسكرية الفاعلة في طرابلس والغرب بصفة عامة، تأخذ موقفًا من البرلمان ورئاسته التي انزلقت في تأييد هذا العمل رغم استدراك رئيس البرلمان بعد تراجع قوات حفتر وانتهاء الحرب واعتباره أن هذه الحرب كانت خطأ، ولكن عدم الثقة في البرلمان وما يصدر عنه مازالت قائمة في القوى السياسية والعسكرية في العاصمة طرابلس وليس في الأفق ما ينبئ بانفراجه في الوقت القريب المنظور.
ثانيًا: شلل السلطة القضائية:
القذافي لم يتدخل في أحكام القضاء العادي بصورة مباشرة في الغالب، ولكنه تدخل في صياغة الكثير من القوانين التي عمل بها القضاء طوال فترة حكمه من خلال سنّ قوانين تتماشى مع ما كان يراه في تشكيل حياة الليبيين في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والإداري والثقافي؛ فجعل من خلال سنّه للقوانين التي تفرض مقولات ما عرف بالكتاب الأخضر (النظرية العالمية الثالثة)، التي تدعو إلى اغتصاب الممتلكات الخاصة وتمليكها للمنتفعين بها أو المستأجرين كالبيت لساكنه والسيارة لمن يقودها لا لصاحبها وعمال المصنع هم شركاء فيه..
كما عمل أن يجعل من القضاء أداة طيعة لخدمته من خلال استئثاره بصناعة قضاء خاص به في الجانب السياسي وسمّاه عقب انقلابه في سبتمبر 1969م بمحكمة الشعب؛ كما أنشأ المحاكم الثورية التي تشبه المحاكم الطائرة في العهد الفاشي من الاحتلال الإيطالي لليبيا.
بعد نجاح ثورة 17 فبراير أصيب القضاء بشلل رباعي شبه تام توقفت جميع وظائف المحاكم عن العمل وأصبح في حالة موت سريري بسبب قيام بعض المنتسبين لجماعات متطرفة باغتيال رجال القضاء والشرطة وكان على رأسهم النائب العام.
وبعد العودة الجزئية للقضاء تعرض لضربة كبيرة صادمة، وهي رفض مجلس النواب المنتخب عام 2014م لحكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا ببطلان الانتخابات، وجعل البرلمان في حكم المعدوم مع أن حكم المحكمة العليا بات غير قابل للطعن!
وبهذا الرفض الذي ضرب بهذا الحكم عرض الحائط فُتح الباب أمام كل من صدر في حقه حكم بالرفض، فلا اعتبار لأحكام القضاء إلا بعض ما يقوم به مكتب النائب العام من محاولة تطبيق أحكام القضاء في بعض القضايا المحدودة التي لا تتعلق بالنافذين من المسيطرين بقوة السلاح على أجزاء من البلاد التي لا حكم لقانون ولا قضاء عليها إلا قانون القادة العسكريين النافذين في مناطق سيطرتهم؛ فهم من يمتلك الأرض ومن وما عليها ولا قانون إلا قانونهم.
كما تعرض القضاء لنكسة أخرى لا تقل عن النكسة التي نكسه بها البرلمان وهي من القضاء نفسه حين اعترض مجلس القضاء الأعلى على حكم المحكمة العليا في رئاسة المجلس الأعلى للقضاء وقام المجلس بعقد جلساته كاملًا دون اعتبار لحكم المحكمة الملزم وغير القابل للطعن ومخالفته تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.
ثالثًا: فوضى السلطات التنفيذية:
كانت السلطة التنفيذية قبل انقلاب عام 1969م متمثلة في الحكومة بتكليف من الملك فهو من يملك تكليفها وحلها، وإن كانت لها صلاحيات محددة ومنصوص عليها في الدستور الذي عطله الانقلاب في بيانه الأول.
وبعد الانقلاب اختزلت جميع السلطات في البداية فيما سمي بمجلس قيادة الثورة، ثم انحصرت في شخص العقيد الذي انفرد بالإمساك بزمام السلطة بعد انقلاب فاشل عام 1975م قام به بعض الضباط الذين شاركوه انقلاب عام 1969م لكنهم ضاقوا ذرعًا بأعماله وسعيه الحثيث للتخلص منهم والانفراد بالحكم، وهذا ما تحقق بعد اكتشافه لهذه المحاولة وتم إعدام بعضهم وفر خارج البلاد من استطاع منهم الهرب.
بعد هذه المحاولة استطاع القذافي إمساك زمام الأمور وأصبح الفرد الحاكم بأمره دون منازع، وأحكم قبضته على البلاد، وجعل من نفسه قائدًا للبلاد يجمع في يده كل السلطات لا ينازعه فيها أحد، ولا يستطيع أحد إقامة أو إزالة حجر في طول البلاد وعرضها إلا بأمره؛ فاستخدم سلطة تنفيذية تحت مسمى اللجنة الشعبية العامة بمثابة مجلس وزراء مهمته تنفيذ كلمات وقرارات وخطابات ومقابلات وتوجيهات «الأخ القائد» الزعيم الملهم!
استمرت حال هذه السلطة إلى اندلاع ثورة فبراير 2011م، التي انبثق عنها ما عرف بالمجلس الانتقالي، الذي أفرز سلطة تنفيذية مؤقتة عُرفت بالمكتب التنفيذي الذي استبدل بسلطة تنفيذية -حكومة- بعد التحرير أفرزها المؤتمر الوطني، الذي حل محل المجلس الانتقالي، وتلتها عدة حكومات انتقالية هشة وضعيفة؛ بسبب الصراع السياسي في المؤتمر الوطني، ثم مجلس النواب، وانبثق عن هذا الصراع تعدد الحكومات في البلاد، التي انقسمت إلى شرق وغرب؛ فأصبح لكل قسم حكومة تمثله فترة من الزمن، وإن توحدت في بعض الأوقات، إلا أن الحقيقة على أرض الواقع، بلاد مقسمة بين سلطتين تنفيذيتين، كل واحدة تدّعي الشرعية ونفوذها لا يتعدى الجغرافيا التي تقع تحت سيطرة القوة العسكرية، التي تدعم هذه الحكومة أو تلك.
وهذا ما جعل وحدة البلاد على المحك، وهي تسير نحو التقسيم أكثر من سيرها نحو الوحدة والاستقرار؛ بسبب التنافس السياسي والعسكري الحاد بين القوى العسكرية التي تقف وراء تلك الحكومة التنفيذية التي تحت سيطرتها، وفي حمايتها وتقع تحت سلطانها؛ بمعزل عن الحكومة الأخرى مما سبب تشظياً، بل حدوث ازدواجية في أغلب مؤسسات الدولة تنذر ببوادر تقسيم البلاد، خاصة أن للتدخل الخارجي والتنازع الدولي والإقليمي مصلحة في تقسيم البلاد وإضعافها، لاقتطاع بعض أراضيها وتقاسم مقدراتها وثرواتها التي هي أهم أسباب عوامل استمرار الداء الذي يضرب أطنابه في الحالة الليبية غير القابلة للتعافي والشفاء؛ بسبب نخبتها السياسية الفاسدة والأطماع الدولية التي من مصلحتها استمرار هذه الحالة المرضية الراهنة إلى ما لا نهاية؛ لتحقيق كل أهدافها في ليبيا وفي كل المنطقة الجيوسياسية المحيطة بها.
وبهذا يمكن تشخيص الداء الذي أصاب جميع المفاصل الحياتية في ليبيا وجعلها دولة شبه فاشلة وفي سيرورة متسارعة نحو التقسيم أو الاندثار من خارطة العالم وظهور خريطة جدية لم تكتمل صورتها، وإن كانت ملامحها بدأت في الظهور، وربما تكشف عنها الأيام القادمة إن لم يتدارك الليبيون أنفسهم ويعوا الخطر الذي يداهمهم هم والأجيال القادمة التي ربما يكونون ضحايا هذا الوضع المتردي الذي يحتاج إلى تدارك قبل فوات الأوان، ولات حين مندم.