في 20 شوال 1416هـ، الموافق 9 مارس 1996م، رحل عن عالمنا فارس نبيل، ومفكر كبير، وداعية فذ، لا يخفى على ذي عينين، رجل سبق زمانه، وتقدم عصره
في 20 شوال 1416هـ، الموافق 9 مارس 1996م، رحل عن عالمنا فارس نبيل، ومفكر كبير، وداعية فذ، لا يخفى على ذي عينين، رجل سبق زمانه، وتقدم عصره.. إنه علامة العصر، وداعية الجيل، الأستاذ الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله، وخير تقدير له أن نعيش متأملين فكره، محققين أمنيته في أن تنتفع الأمة بتراثه، ساعين به إلى ميدان العمل خاصة في هذه الظروف الحرجة التي تعيشها أمتنا على تطاول أمصارها. وسنحاول في هذه الإطلالة الوقوف على جوانب الإصلاح لديه؛ وفاء له، وعرفاناً لفضله، سائلين الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناته.
روى أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة “رضي الله عنه”، أن النبي “صلى الله عليه وسلم” قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»(أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الملاحم برقم 3470)..
يقول د. يوسف القرضاوي: وهذا الحديث يحمل بشرى للأمة على امتداد أمصارها وأعصارها، بأن دينها سيظل حياً، ولن يدركه البلى، بل يتجدد باستمرار بمن يبعثه الله ليقوم بمهمة التجديد، ولا يعني التجديد للدين تجديد جوهره، فإن التجديد للشيء إعادته للشيء أقرب ما يكون إلى يوم نشأته وظهوره، فتجديد الدين إنما يعني تجديد الفهم له، والإيمان به، والالتزام بتعاليمه، والدعوة إليه(1).
رؤية ثاقبة والشيخ الغزالي أحد هؤلاء الذين ينطبق عليهم الحديث، والمتتبع لكتبه وخطبه ودروسه ومحاضراته ووجهات نظره لجوانب شتى من جوانب الحياة يدرك تماماً أنه أمام أحد المجددين المصلحين، فهو صاحب رؤية ثاقبة لعدد من القضايا الإسلامية وجهود إصلاحية لتطبيق الإسلام على واقع الحياة تطبيقاً عملياً. وعلى اعتبار أن «مَنْ» في الحديث تصدُق على الأفراد، وتصدُق على الحركات الإصلاحية والفكرية والمدارس التربوية والدعوية، فلا يرتاب راصد لحركة الإسلام ومسار أمته على رأس القرن الرابع عشر الهجري أن الشيخ الغزالي أحد أعمدة التجديد الإسلامي الرئيسة في هذا العصر؛ سواء نظرنا إليه من خلال جهوده الذاتية في الفكر والدعوة والتوعية والتربية، أو من خلال عمله في الحركة التجديدية الكبرى حركة الإخوان المسلمين التي يعد هو أحد أركانها الراسخة وألسنتها الصادقة(2).
إصلاح وتجديد فلقد نظر الشيخ الغزالي إلى أمته التي أصابتها الهزائم من كل مكان، وسرى فيها الغضب من نواحي متعددة، ونذر نفسه لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وتجديد ما يمكن تجديده، وهو ينطلق لا تحده الأقطار، ولا تعوقه الأسفار؛ ينتقل من بلد إسلامي إلى آخر، ومن علة إلى علة أخرى، لا على مستوى قُطر فحسب، بل على مستوى أمته التي أخذ على عاتقه إصلاحها وتجديدها؛ فتراه يتحدث عن أحوال المسلمين في كشمير كما يتحدث عن أحوال إخوانهم في أفغانستان، وتراه يعالج هنا التشدد في الفرعيات ويعالج هنا نظرة الناس إلى المرأة، في الوقت الذي يدعو فيه إلى تزكية الأنفس وتقوية الإيمان، هو على يقين تام من أن إصلاح الأمة أولى خطوات إصلاح الدولة فيقول: «إصلاح الدولة المتهدمة لا تصح ولا تتم إلا بإقامة الأمة نفسها وشقائقها من عليها، وهو عمل ينبغي أن يكون الشغل الشاغل للإسلاميين، إلى جانب نشاطهم النظري في بناء النظام السياسي للإسلام»(3).
ازدهار الدين وهو يدرك تماماً أن إصلاح الأمة وتجديد أمرها غاية في القيمة والخطورة، من هنا يهيب بموقف المصلحين والمجددين من قبله، ويرى أنهم سبب من أسباب ازدهار الدين وارتفاع رايته، حيث يقول: «لولا رجال قلائل من الملهمين الأحرار لدرست معالم الدين، نذكر منهم جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي، وحسن البنا، وقد أسأل نفسي: لو أن جمال الدين عاصر «مصطفى كمال»، أكانت نهضة القائد المنتصر تميل عن الإسلام هذا الميل؟ أو كان محمد عبده العالم القائد أو حسن البنا المربي النابه، لو أن أحدهم صاحب الثورة الكبرى سنة 1919م، أكانت تأخذ اتجاهها المدني المحض مبتوتة الصلة بآمال الإسلام وآلامه؟»(4). جوانب متعددة ونحن نجد أن جوانب الإصلاح عند الشيخ الغزالي متعددة ومتنوعة، ومن أبرز الجوانب التي أعارها اهتمامه الإصلاح التعليمي، والإصلاح الإعلامي، والإصلاح الاجتماعي، والإصلاح اللغوي، والإصلاح التربوي، بالإضافة إلى موقفه من الاستبداد السياسي، ومحاربته للتدين المغلوط، وموقفه من الغزو الثقافي، والفكر الوافد عامة، واهتمامه بالصحوة الإسلامية.. وغير ذلك من جوانب الإصلاح، ويمكننا أن نقف مع بعض جوانب الإصلاح عنده على النحو الآتي:
1- الإصلاح التعليمي: لا شك أن التعليم هو سر نهضات الأمم، ومؤشر ارتقائها، وهو أربح ما تستثمر فيه الدول، وهو مفتاح المغاليق، وحلاَّل الأزمات، وراسم قسمات المستقبل، وهو عماد الحرب، وعدة السلم، وحافظ المال أن ينهب والحق أن يسلب، وهو بلا شك مارد عملاق إذا لم تستطع الأمة أن تعلو صهوته قضت عليها حوافره، وهو الذي سماه القرآن الكريم «سلطاناً»؛ { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ “33”}(الرحمن)، فما رأينا بنوده ترفع، وقبابه تضرب، وأروقته تمتد في عالمنا العربي والإسلامي إلا شاع في النفس الرضا، غير أننا نتذكر هذا الصوفي الذي كان يستعيذ بالله كلما أحس بالرضا، فإن الإغراق في الرضا قد ينسي العيوب، خاصة أفدح العيوب، والذي مثَّله أبو الطيب في بيته الفذ: ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام سبيل النهضة من هنا جعل الشيخ الغزالي الإصلاح التعليمي من أبرز اهتماماته، والذي وهب له جزءاً كبيراً من تراثه وجهاده، ونظر إلى التعليم الديني بداية؛ لأنه السبيل الحقيقي إلى النهضات، وأرشد إلى العيوب التي اعترت هذا التعليم الديني، ومن أبرز العيوب التي يأخذها عليه ما يلي:
1-فقدان الخصائص النفسية والذهنية التي ترشح أصحابها للعلوم الدينية، وليس كل امرئ مهما بلغت ثقافته أن يشتغل بالنواحي الروحية أو الجوانب الإلهية في دنيا الناس(5).
2-التخصص المبكر قبل تحصيل ثروة محترمة من المعارف الإنسانية والدراسات الكونية التي لا بد منها، قبل التوافر على علوم الدين، وعلاج قواعدها ودقائقها، ويجزم الشيخ الغزالي بأن الإسلام لا يمكن أن يدرس دراسة واعية، ولا أن يفهم فهماً صحيحاً قبل تحصيل هذه الثروة المحترمة من الثقافة(6).
3-والمأخذ الثالث الذي يأخذه الشيخ الغزالي على التعليم الديني عندنا «ضعف الاستيعاب لجملة الحقائق التي جاء بها الإسلام، والغلو في تقدير الأجزاء المبتورة التي تتاح معرفتها للبعض، مع القصور في معرفة الأجزاء المكملة الأخرى مع ما يكون لها من خطر وأثر(7).
4- والمأخذ الرابع الذي يأخذه كذلك الانفصال بين ميدان الكلام وميدان العمل، فمن العلماء نفر كبير لا تصدُق أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم(8).
الهوامش:
(1، 2) الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن ص 185، د. يوسف القرضاوي.
(3) جرعات جديدة من الحق المر، محمد الغزالي، ص 12.
(4) في موكب الدعوة، محمد الغزالي، ص 10.
(5) كيف نفهم الإسلام، محمد الغزالي، ص 26.
(6) المرجع السابق، ص 28.
(7) المرجع السابق، ص 30.
(8) المرجع السابق، ص 26.