معادلة صعبة يحاول رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي موازنتها؛ ما بين تظاهرات متنامية تطالب بإصلاح حقيقي، وأحزاب سياسية ومراكز قوى شيعية ترفض مغادرة مكتسباتها المادية والمعنوية التي سلبتها من دماء الفقراء والمساكين، ومرجعية دينية في النجف لم تغادر الخطاب في إعادة تشخيص ما شخّصه الشارع العراقي منذ حين.
حافظ الحراك الجماهيري خلال مسيرات الجُمع المتتالية على ثلاثة أمور؛ هي: الخطاب الوطني الذي ينادي باسم العراق والعراقيين، وعدم السماح للسياسيين بركوب موجة التظاهرات، وتفاعل كل شرائح المجتمع معه.
بينما تطور ذات الحراك في خمسة أمور:
1- فضح السياسيين الفاسدين بشكل متنامٍ ودون خطوط حمراء.
2- عدم السماح للمعممين بأن يقودوا التظاهرات أو أن يلبسوها ثوباً طائفياً، واتهام جهات منهم بالسرقات.
3- تنامي الشعارات ضد التدخلات الخارجية، ومنها إيران.
4- تزايد عدد الحشود المتظاهرة.
5- زيادة التركيز الإعلامي على الحراك ومطالبه.
أما الحدث الأكبر في التظاهرات فهو انقلاب المتظاهرين على شخص العبادي، فبعد أن دعمته التظاهرات في أيامها الأولى وأعطته تفويضاً للتغيير والإصلاح، ليكسب شرعية وليضرب بيد من حديد على الفاسدين، أدركت تلك الجماهير أنها تراهن على الفرس الخاسر، فاتجهت نحو مهاجمته لتهربه من المسؤولية الملقاة على عاتقه.
وللحراك نقاط ضعف؛ ولعل أبرز نقاط الضعف في الحراك الجماهيري للجنوب والوسط العراقي: عدم وجود قيادة واضحة للحراك الجماهيري ترسم له خطوات مساره، وتخطط له طريقه نحو بلوغ الأهداف المطلوبة، وغياب شيوخ العشائر الشيعية عن المشهد؛ وقد يعود هذا لوصول الفساد إلى دواوينها من قبل المالكي وحزب الدعوة لهم، وأيضاً عدم التعويل على القوات المسلحة العراقية من جيش أو شرطة في أن يكون لهم دور في قلب المعادلة العراقية.
عوامل مؤثرة
من الخطأ أن نتصور أن التنامي في أعداد المتظاهرين أو علو صوت المعترضين وقسوة الشعارات المرفوعة ضد الفساد والمفسدين هي العوامل الوحيدة التي ستحكم مسار الحراك. فهناك عوامل داخلية وخارجية أخرى لها أثر قد لا يكون مرئياً ولكنه يعمل داخل الشارع الشيعي العام، سواء من خرج منهم في الحراك أو من ينتظرون في بيوتهم أي مركب سيركبون.
ولعل من أبرز العوامل الداخلية المؤثرة على الحراك الجماهيري في الوسط والجنوب الخسائر الكبيرة التي تتكبدها مليشيات الحشد الشعبي، وهجرة الكثير من مجرمي القتل والنهب منهم إلى خارج العراق، وقلق المرجعية الشيعية في النجف من تنامي الخطاب المدني، والمطالبة باستبدال المشروع الطائفي الذي حكم به حزب الدعوة الإسلامية بآخر مدني يسع كل العراقيين، والضغط في البرلمان العراقي على تشريع قانون الحرس الوطني الذي يضمن للمكون السُّني المساهمة في القوات المسلحة العراقية في محافظاتهم؛ وما يسببه هذا من قلق لأصحاب المشروع الطائفي.
أما أبرز العوامل الخارجية التي من الممكن أن تؤثر على تعامل الشارع الشيعي مع التظاهرات والحراك الجماهيري؛ تراجع المشروع الإيراني من خلال سقوط رموزه من السياسيين العراقيين الفاسدين، ودخول تركيا على ملف «داعش» وعلى الأراضي العراقية، والقرار الروسي الأخير بالدعم العسكري المفتوح للمجرم «بشار الأسد»، والمشروع الأمريكي الذي وإن لم يكن واضح المعالم اليوم لكنه قد تظهر له ملامح في أي لحظة.
كل هذه المؤثرات ويزيد ستكون عوامل ربما تحرف مسار الحراك الجماهيري أمام إظهار مصالح أخرى توهم الجهلة بضرورة مراعاتها.
الحراك.. إلى أين؟
بعد عجز العبادي عن إحداث أي تغيير يُذكر في إسقاط رموز الفساد (حتى الآن وما زالت بقايا فرصة بيديه)، فلم يعد أمام الحراك إلا أمرين لا ثالث لهما:
الأول: القبول بالواقع والتآكل شيئاً فشيئاً، بوجود مؤثرات دينية وسياسية شيعية من الداخل والخارج أمام مصالح المذهب أو حتى استقرار العراق!
الثاني: السعي للتغيير سواء كان بالمطالبة باستقالة العبادي طوعياً أو من خلال إثارة الفوضى التي تجبره على الاستقالة.
وهنا فجر حزب الدعوة قنبلته لتدارك الأمر حيث أعلن عن دعوته لانتخابات مبكرة، يراها مخرجاً من مأزقه الذي وضعه في زاوية الفساد الضيقة، وحتى يكسب الوقت في الحفاظ على مكتسباته والتعتيم على جرائمه، وهذه طبخة قد يكون إعدادها في ذات المطبخ السابق الذي يضم العبادي والائتلاف الشيعي والمرجعية.
صفقة
ويعتقد المراقبون بأن ما يخشاه المتظاهرون اليوم أن يكون ثمن هذه التظاهرات الواعدة هو إسقاط العبادي وحكومته الواهنة فقط، وحصر الإصلاحات المطلوبة في ساحات التظاهر، بينما يبقى الفساد والفاسدون يخوضون ويلعبون في مقدرات العراقيين، ومن ينظر إلى ما حصل مع المالكي بالأمس لا يستغرب من حصول هذا غداً!