تفتتح روث سايدل كتابها “النساء والأطفال في المقام الأخير” برواية غرق سفينة “التيتانيك” غير القابلة للغرق.. في الواقع، كانت النساء والأطفال أول من يجب إنقاذهم في تلك الليلة المرعبة، أي أولئك الذين في الصفين الأول والثاني، لكن، لم تنج غالبية النساء والأطفال، فقد كانوا في الصف الثالث.
يقول مايكل زيمرمان في كتابه “الفلسفة البيئية”: إن حال الاقتصاد العالمي يشبه بطرق كثيرة حالة “التيتانيك”؛ براق ووافر، ويعد غير قابل للغرق، لكن كما لاحظت روث سايدل، على الرغم من مقاهي الأرصفة وحمامات الساونا، ودكاكين الترف، فإننا أيضاً نفتقر إلى قوارب نجاة لكل شخص عندما تقع الكارثة.
وعلى غرار “التيتانيك”، ثمة الكثير من البوابات المقفلة في الاقتصاد العالمي، والمراكب المعزولة، والتدابير التي تكفل أن تكون النساء والأطفال أولاً، ليس في الإنقاذ، بل في السقوط في هاوية الفقر.
كان ينبغي أن تحدث التنمية الوافرة والعافية للجميع في العالم الثالث، لقد حققت هذا الوعد في بعض المناطق ولدى بعض الشعوب، أما بالنسبة إلى معظم المناطق والشعوب فقد جلبت معها، بدلاً عن ذلك، التدهور البيئي والفقر.
فأين أخطأ النموذج الإرشادي للتنمية؟!
أولاً: لقد رُكِّز حصرياً على نموذج التقدم المستمد من الاقتصاديات الغربية المصنعة، مفترضاً أن الخط الغربي في التقدم متيسر للجميع، ولذلك فإن التنمية التي تعني تحسين عافية الجميع، جرت مماثلتها مع المقولات الاقتصادية المغربنة، حول الحاجات البشرية والإنتاجية والنمو.
إن المفاهيم والمقولات المتصلة بالتطور الاقتصادي والانتفاع من الموارد الطبيعية والتي انبعثت في السياق الخاص بالتصنيع والنمو الرأسمالي في مركز السلطة الاستعمارية، وصلت إلى مستوى أصبحت فيه فرضيات كلية يعتقد أنها قابلة للتطبيق بنجاح في السياق المغاير تماماً المتصل بتحقيق الحاجات الأساسية للشعوب في المستعمرات أي بلدان العالم الثالث.
وكما أشارت روزا لوكسمبورج، فإن التطور الصناعي المبكر في أوروبا الغربية تطلب بالضرورة احتلالاً مستمراً للمستعمرات بواسطة القوى الاستعمارية وتدمير الاقتصاد الطبيعي المحلي فيها.
ثانياً: ركزت التنمية على المؤشرات المالية حصرياً من قبيل مؤشر GNP أي الناتج الوطني الإجمالي، وما لا تستطيع هذه المؤشرات إظهاره هو التدمير البيئي ووجود الفقر المرتبطان بعملية التنمية.
إن المشكلة في قياس النمو الاقتصادي بواسطة مؤشر الناتج الوطني الإجمالي تتمثل في أنه يقيس بعض التكاليف معتبراً إياها منافع، مثلاً ضبط التلوث، لكنه يخفق في القياس الكامل للتكاليف الأخرى، فوفق حسابات الناتج الوطني الإجمالي يضيف قطع أشجار غابة طبيعية ثروة إلى النمو الاقتصادي، على الرغم من أنه يخلِّف وراءه منظومات بيئية مستنفذة، وكذلك يخلِّف أيضاً مجتمعات زراعية وغابات مستنفذة.
ثالثاً: إن المؤشرات من قبيل الناتج الوطني الإجمالي تستطيع فحسب قياس تلك النشاطات التي تحدث عبر آلية السوق، بغض النظر إن كانت هذه النشاطات منتجة أو غير منتجة أو مدمرة.
ففي اقتصاد السوق، يكون المبدأ المنظم لاستخدام الموارد الطبيعية هو زيادة الأرباح والتراكم الرأسمالي إلى الحد الأعلى، وتُدار الطبيعة وحاجات الإنسان من خلال آليات السوق.
أخيراً، إن النموذج الإرشادي التقليدي في التنمية يتذهن الفقر فقط بواسطة غياب نماذج الاستهلاك الغربية أو بواسطة المداخيل النقدية، ولذلك فهو غير قادر على تضمين الفقر الذي يُحدثه تدميرها في أثناء عملية التنمية.
ختاماً؛ يمكن القول: إن المفارقة والأزمة في عملية التنمية تنجمان عن المطابقة الخاطئة بين الفقر المتذهن ثقافياً والفقر المادي الحقيقي، وعن الخطأ الذي يعتبر نمو الإنتاج السلعي أفضل وسيلة لتلبية الحاجات الأساسية.