يبدو أنه لا سبيل أمام أهالي الجانب الغربي من مدينة الموصل العراقية سوى الفرار إلى العراء، وسط ظروف إنسانية مروعة، هرباً من جحيم الحرب التي تشهدها مناطقهم بين القوات العراقية وتنظيم “داعش” الإرهابي، الذي يقاتل بكل ما أوتي من قوة، متشبثاً بآخر حصونه في الموصل، مركز محافظة نينوى، ذات الأغلبية السُّنية.
فالأحياء السكنية، التي تعج بمدنيين، باتت مسرحاً لمعارك ضارية للغاية؛ حيث يسعى مسلحو “داعش”، إلى الحفاظ على موطئ قدم لهم في المدينة، التي غالباً ما ستشكل خسارتها بداية نهاية ما تسمى بـ”دولة الخلافة”، التي أعلنها زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، من جامع في مدينة الموصل القديمة، صيف عام 2014م.
المدنيون، الذين يعيشون داخل المدينة أو الفارين عنها، يعانون أوضاعاً مأساوية للغاية، فلا غذاء ولا دواء ولا ماء كافٍ، وسط موجة برد تجتاح المنطقة، وتحذيرات من كارثة إنسانية وشيكة إن لم تتحرك الحكومة العراقية والمجتمع الدولي بسرعة.
الموصل تحترق
الفارون، وهم جياع وعراة وحفاة، وجوههم صفراء من الخوف تبحث عن بصيص أمل، وأجسادهم النحيلة من سوء التغذية تصارع للنجاة خارج المدينة، البالغ عدد سكانها قرابة 1.5 مليون نسمة، وهي ثاني أكثر مدن العراق سكاناً بعد بغداد.
محمد تحسين أبو عمر، هو أحد المدنيين النازحين من الموصل، يسير بخطوات متسارعة، حاملاً على كتفه حقيبة بها ما تمكن من حمله قبل فراره من منزل في منطقة العكيدات جنوبي المدينة، والتوجه نحو العراء، بينما يقبض بكف يده اليمنى على يد ابنه عمر، الذي لم يتجاوز ربيعه الثامن، وخلفه زوجته تحمل ابنتهما عائشة ذات الخمسة أعوام.
أبو عمر رفض الوقوف والتحدث، فسار معه مراسل “الأناضول”، وبدأ الحديث عن آخر ما شاهده قبيل نجاته من المدينة، فأجاب بقوله: الموصل تحترق، ألسنة النيران وأعمدة الدخان تتصاعد من كل مكان، عويل النساء وبكاء الأطفال وصرخات الرجال وأنين كبار السن يهز أرجاء المدينة، الجثث تملأ الشوارع، والمنازل المهدمة والأنقاض متناثرة تكاد تجعل المرور من الأزقة مستحيلاً.
توقف أبو عمر عن السير، وأنزل الحقيبة من على كتفه، ثم قال بصوت مرتفع بينما الدموع تنهمر من عينيه: خسرنا كل شيء كل شيء، الأهل والأصدقاء والأحباب، أصبحنا مشردين في العراء نبحث عن مأوى يقينا من المطر وأغطية تعيد إلى أجسادنا الدفء.
وبعد أن أنهى هذه الجمل انخرط أبو عمر في نوبة بكاء حادة جعلت أفراد أسرته والمارة من حوله يبدؤون بالبكاء، ويستنجدون لإنقاذهم من المعاناة، ويتساءلون عن ذنبهم فيما يحدث للموصل منذ سيطر عليها “داعش” في يونيو 2014م.
عائلة أم وسام
طوابير الفارين من المدينة على مد البصر، فأينما تدير ناظريك تجد أطفالاً ونساء وشباباً وكبار سن يتحدثون عما حل بهم من ويلات، ويحملون الحكومات المتعاقبة المركزية والمحلية المسؤولية.
وسط تساقط الأمطار أصبح السير في المناطق الترابية صعباً للغاية إذ تحولت إلى برك طينية؛ ما جعل المهمة شاقة على المدنيين، الذين عليهم السير لمسافة تزيد على 3 كم لإيجاد سيارة عسكرية تقلهم إلى أقرب مخيم للنزوح على تخوم ناحية حمام العليل جنوب المدينة، التي تشن القوات العراقية، بإسناد من التحالف الدولي، منذ 17 أكتوبر الماضي، عملية عسكرية لاستعادتها من “داعش”.
امرأة في منتصف عقدها الخامس كانت منعزلة عن طوابير النازحين تقف وحدها وكأنها شبح شاحب على مرتفع من الأرض وتوجه نظرها نحو الموصل.
قالت لـ”الأناضول”، رداً على سؤال بشأن عدم إكمالها المسير إلى مخيمات النازحين: لا أستطيع، فقد فقدت ابني الوحيد وساماً وزوجته وأطفاله الثلاثة أثناء النزوح ولا أعرف مصيرهم، فأنتظر هنا منذ أكثر من 7 ساعات، وأفتش في وجوه النازحين بحثاً عن من فقدتهم.
أم وسام أوضحت أن حي “النبي شيت” الذي كانوا يقطنونه شهد معارك قوية جداً بين القوات العراقية و”داعش”، وأن الكثير من المنازل انهارت بفعل السيارات المفخخة التي دفع بها مسلحو التنظيم لإعاقة تقدم القوات؛ ما أضطر السكان إلى ترك منازلهم خوفاً من انهيارها على رؤوسهم.
وأضافت أنه أثناء نزوحهم، وعندما كانت تتقدم عائلتها حاملة راية بيضاء، حدثت مواجهات مسلحة بالقرب منها، فاضطرت إلى الهرب والاختباء في أحد الدور السكنية، وعند هدوء الوضع بعد أكثر من ساعتين، اكتشفت أنها وحدها دون عائلتها، لتبحث عنهم هنا وهناك دون جدوى، إلى أن نصحها فارون مثلها بالفرار خارج الموصل، على أمل أن تجد من فقدتهم.
أم وسام قالت: إنها لم تتناول رغيف الخبر منذ قرابة خمسة أيام، وتعيش على الماء والرطب (التمر)، وإنها فقدت أدويتها الخاصة بمرض القلب والضغط والسكر خلال فرارها من جحيم الحرب، التي تسببت بفقدانها زوجها في غارة جوية، منتصف عام 2016م، استهدفت مقراً لـ”داعش” قرب محله لبيع إطارات السيارات في منطقة الموصل الجديدة جنوبي المدينة.
لكن كل هذا ليس مهماً؛ فالمهم بالنسبة إلى أم وسام هو أن تجد ابنها وعائلته سالمين، فهم آخر أمل لها في الحياة، رافضة التحرك من مكانها إلا بعد أن تجدهم أو تحصل على معلومة عنهم.
جثث على الطرقات
أبو حمدان، البالغ من العمر قرابة 60 عاماً، لم يفضل النجاة بنفسه فقط من المدينة دون قطيع الماشية الذي يملكه، فاصطحبه معه، وتوجه به نحو العراء، على أمل إيجاد مأوى يتوافر فيه الأمن والقليل من الماء والغذاء.
وعما واجهه خلال النزوح، تحدث أبو حمدان قائلاً: إن أصوات الإطلاقات النارية كانت تنبعث من كل مكان في منطقة حي العامل (جنوبي الموصل)، والقصف الجوي والمدفعي يطال كل شيء، سواء كان يتحرك أو ثابت؛ ما دفعني إلى النزوح بعد أن شاهدت مئات المدنيين ينزحون.
المواطن العراقي قرر أخذ قطيع الماشية معه خشية أن يفقده كما حدث سابقاً عندما اضطر إلى النزوح، في 8 يونيو 2014م، وترك وراءه أكثر من 150 رأس غنم وماعز، ليعود بعد انتهاء الأحداث، ويكتشف أن قطيعه بأكمله تعرض إلى السرقة.
أبو حمدان أضاف أنه شاهد خلال رحلة فراره عشرات الجثث لمدنيين ومسلحين وقوات أمنية ملقاة على الطرقات، البعض منها مضى على وجوده أكثر من أسبوع، فبدت عليها علامات التفسخ كالانتفاخ، مشدداً على أن الفارين لا يعرفون ماذا يفعلون ولا إلى أين يتجهون، ولا توجد أي جهة رسمية ترشد المدنيين إلى الطريق الآمن.
وقبل أن يكمل مسيرته نحو مخيمات النزوح، أشار بعصاه، التي يهش بها على غنمه، قائلاً: إنه سيعود إلى المدينة بعد أن تنطفئ نيران الحرب فيها، ويمارس عمله من جديد، ويبنى ما دمرته المعارك.
حالة الطوارئ القصوى
الناشط في مجال حقوق الإنسان، سيف الوردان، حمل مسؤولية انهيار الوضع الإنساني للعائلات الفارة من الموصل أو التي لا تزال داخلها إلى الحكومتين المركزية في بغداد والمحلية في نينوى.
وقال: إن الحكومتين أعلنتا قبل انطلاق العمليات العسكرية أنهما اتخذتا كافة التدابير اللازمة لمواجهة أي موجة نزوح محتملة، لكن الواقع كشف عكس ما تحدث به المسؤولون، فلا وجود لخطة مدنية تنقذ المدنيين وتخفف معاناتهم وتوفر أبسط احتياجاتهم، على حد تقديره.
الناشط الحقوقي مضى قائلاً: إن المنظمات الإنسانية وبعض الحملات الشعبية هي التي تساعد الفارين وتعمل على توفير جزء من احتياجاتهم.. الأزمة كبيرة جداً ولا يمكن لجهد فردي حلها، ما يتطلب من الحكومة المركزية (بغداد) والمجتمع الدولي والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان الإسراع بالتوجه نحو الموصل وإعلان حالة الطوارئ القصوى، لمنع وقوع كارثة إنسانية بحق الأبرياء.
وأوضح أن الأمراض الوبائية، مثل الكوليرا، باتت تنتشر بين المدنيين في الجانب الأيمن (الغربي) للموصل؛ بسبب انعدام المياه الصالحة للشرب، وانعدام الغذاء الصحي، واعتماد السكان على مياه الأمطار والصرف الصحي من أجل إرواء عطشهم وعلى ما يجدون في القمامة لسد جوعهم.
وختم بأن النازحين ليسوا أفضل حالاً، فهم يعانون من نقص الأغطية والخيام اللازمة لوقايتهم من برد الشتاء وأمطاره وعواصفه، وقد بدأت أمراض الصدر والبطن تفتك بهم وتنتشر بين الأطفال والنساء، وتهددهم بالموت.
وقبل انطلاق عمليات تحرير الجانب الغربي من الموصل، في 19 فبراير الماضي كان يعيش فيه نحو 800 ألف مدني نزح منهم، حسب وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، أكثر من 150 ألفاً.
بين هؤلاء النازحين واصلت العائلات، من أطفال ونساء وكبار السن، السير في الطريق الموحل للوصول إلى السيارات التي ستقلهم إلى المخيمات، فيما بقيت عينا أم وسام شاخصتان على المارة لعلها تعثر على آخر من تبقى لها في الحياة.