موقف فريد يهز الوجدان وترتجف منه الأبدان ويكاد لا يصدقه عقل.
امرأة تقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم وفي جمع من الناس تعترف بارتكاب الفاحشة وتقول: يا رسول الله، أصبت حدًا فطهرني.
ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم عنها بوجهه لعلها تتراجع، ولكنها تصر على الاعتراف، فيقول لها: “ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه”، تزداد إصراراً وتشير إلى حملها.
يقول لها: “ارجعي حتى تضعي حملك”.
تعود بعد عدة أشهر وقد حملت مولودها في خرقة، فيردها النبي صلى الله عليه وسلم لترضع ولدها حتى سن الفطام.
تعود بعد عامين وقد فطمته وحملته على يديها حاملاً كِسرة خبز في يده.
يُقام عليها الحد، وتغادر الدنيا لتلقى الله طاهرة من ذنبها وليخلد النبي موقفها بقوله: “لقد تابت توبةً لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟” (رواه مسلم في صحيحه).
قد يكون مفهوماً أن يستيقظ الضمير في لحظة إشراق، أما أن يستمر توقد لحظة الإشراق تلك ثلاث سنين!
ثلاث سنين لم تكن في حبس، ولم يكن في يديها قيد، ولم تكن تحت الحراسة أو المراقبة.
ألم تحدث نفسها خلال تلك الفترة بالهرب؟
ألم تفكر في الرجوع عن إقرارها فراراً من إقامة حد ليس عليه شهود سواها؟
كيف سَلِمَت من هذا الصراع العاطفي تجاه وليد ينمو وتنمو معه عاطفة الأمومة، ينمو ويزداد تعلقها به يوماً بعد يوم؟
كيف سَلِمَت من الصراع النفسي وهو يقودها نحو التفكير في مصير طفل يعيش بلا رعاية من أمّ؟ ألم تحدثها نفسها بأنه يكفيها أن تحقق المصلحتين، مصلحتها بالتوبة، ومصلحة طفلها بالإبقاء على حياتها؟!
محال ألا يدور هذا الصراع في نفس إنسان في هذا الموقف، إنه نفس الحوار الإنساني الذي أداره خيال فيكتور هوجو على لسان جان فالجان بطل قصة البؤساء.
ولكنه هنا قصة حقيقية، قصة يقظة ضمير، قصة صراع بين المصلحة والواجب، قصة انتصار الروح على الجسد.
لا أدري لماذا لم نحتفِ في تاريخنا بهذه المرأة العظيمة كما احتفت المسيحية بمريم المجدلية؟
لماذا لم يؤلف أدباؤنا قصصاً ومسرحيات عن المرأة الغامدية كما ألف الكاتب الفرنسي موريس ميتيرلنك، والشاعر الألماني بول هايز وغيرهما عن مريم المجدلية؟
فالمرأة الغامدية، ومريم المجدلية أشرقا من مشكاة واحدة، انعكاساً لنور رسولين هزا وجدان المرأتين بحرارة الإيمان، ليظلا مثلين خالدين لصحوة الضمير وإشراق الإيمان، وعلمين على رسالة المثالية المُطْلَقة: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”.
ورسالة الواقعية المتوازنة بين العدل والرحمة، وبين حقوق الفرد وحقوق المجتمع.