تحدثنا في مقالات سابقة عن الفزعات، وهي روح النخوة والرجولة والشهامة المتأصلة عند المسلمين، والمستمدة من مواقف القرآن الكريم، ومن أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة وأتم التسليم.
وما أحلى الفزعات عندما تكون من أجل الوطن، ومن أجل رفعة هذا الوطن والدفاع عنه، وما أجملها عندما تكون للإصلاح بين الناس وإشاعة الألفة في المجتمع.
وهذا ما سوف نستعرضه في هذه القصة الواقعية من كتاب “محسنون من بلدي” – الجزء الثالث من إصدار بيت الزكاة (مستشار التحرير د. عبدالمحسن عبدالله الجارالله الخرافي)، وفيها فزعة تجار الكويت من أجل وطنهم الغالي الكويت، ومن هؤلاء التجار التاجر راشد ناصر راشد بورسلي، وكان أحد التجار المعروفين بالشهامة والرجولة في عصره.
موقفه في الإصلاح بين الناس:
من الوقائع المعروفة في هذا الصدد ما يرويه لنا السيد الفاضل وليد بورسلي، حفيد التاجر راشد بروسلي، عن والده المرحوم الأديب خالد راشد بورسلي بشأن تلك المشادة التي جرت بين اثنين من أبناء الكويت، والتي تحولت إلى نزاع، فأسرع التاجر راشد بورسلي بالتدخل لفضه، وبذل كل جهده، حتى أصلح بينهما، وقدم للمتضرر مبلغاً من ماله الخاص، تعويضاً عما لحقه من ضرر، لحرصه على الصلح وإشاعة المحبة والأخوة بين الناس.
موقفه سنة الهدامة:
إذا كانت فزعة راشد بورسلي لإصلاح ذات البين جديرة بالتسجيل والتقدير، فإن فزعته في الأحداث الكبرى التي ألمت بأهل وطنه وسرعته لإغاثتهم ومساعدتهم جديرة أيضاً بالتسجيل والتقدير.
ففي سنة 1353هـ (1934م) سقطت أمطار غزيرة على الكويت، وتحولت إلى سيول جارفة دمرت كثيراً من البيوت وشردت سكانها وألحقت خسائر فادحة بالممتلكات – وأطلق أهل الكويت عل السنة التي وقعت فيها تلك الأحداث “سنة الهدامة” – لذلك سارع المرحوم راشد بورسلي إلى مساعدة أهل الحي الذي يسكن فيه، فأصلح بيوتهم وأعاد بناء ما أتلفته السيول، ثم قام لإصلاح المسجد وإعادة تأهيله من ماله الخاص.
دوره الوطني:
لم يتخلف التاجر راشد بورسلي عن واجب الدفاع عن وطنه والزود عن أراضيه، ففي موقعة الجهراء عام 1920م، وعندما حوصرت القوات الكويتية في القصر الأحمر، أرسل الشيخ سالم فارسين إلى أهل المدينة لطلب النجدة، ففزعوا جميعاً فزعة رجل واحد، ويؤكد ذلك المؤرخ سيف الشملان بقوله: “… فقام الكويتيون خير قيام حيث جهزوا سفناً شراعية مملوءة بالذخيرة والأطعمة والرجال، وجهزوا جيشاً برياً يقصد الجهراء…” (من كتاب تاريخ الكويت، سيف مرزوق الشملان، ط 1، ص 189)، يقول السيد وليد بورسلي عن رواية والده الأديب خالد بروسلي: “إن جدي المرحوم راشد بورسلي كان من بين أهل المدينة ملاك السفن الذين هبوا لنجدة إخوانهم في الجهراء حيث أرسل سفينة ضمن الكثير من السفن التي أبحرت صوب الجهراء تلبية لنداء الوطن، وقد أصيب شقيقه المرحوم علي بن ناصر بورسلي برصاصة في كتفه”.
وقد كان لوصول هذا المدد من أهل المدينة الأثر النفسي الكبير على طرفي المعركة، ويؤكد ذلك الكاتب عبدالله بن خالد الحاتم بقوله: “… وما كاد العدو يبصرهما خارجين، حتى دب الذعر والهلع بين صفوفه، وتعاظم هلعهم لما أبصروا أشرعة السفن الكثيرة القادمة من الكويت…” (من كتاب من هنا بدأت الكويت، عبدالله بن خالد الحاتم، ط 2، ص 241).
وقد كشفت قصة التاجر راشد ناصر بورسلي أوجه المروءة والشهامة المتأصلة عند أهل الكويت الطيبين وعند تجارها الكرماء، وكيف كانت فزعتهم لإصلاح ذات البين، ولنجدة إخوانهم، وفزعتهم الكبرى للدفاع عن الوطن وحماية أراضيه.