رحل كما يرحل الكثيرون عن هذه الدنيا الفانية.
مات ولكن هل كل الموت موت كما أنّ ليس كل حياة حياة؟
لكنه بقي شاهداً يراه من شاء ويسمعه من شاء.
بعد ثلاثمائة شهر بالتمام والكمال تستطيع أن ترى رسمه وسمته وابتسامته، تستطيع أن تشتم رائحة يده الكريمة وفيها الكرم الفطري الذي لا تقف أمامه القدرة المادية.
وَما الخِصبُ للأَضياف أَن يَكثُر القِرى وَلَكِنَّما وَجه الكَريم خَصيب
وهكذا كان وجهه وقراه.
قال لي أحد الأحبة الأصدقاء قبل يومين وهو صديق عتيق من ذلك الجيل الأصيل: كنت إذا اتصلت بفلان وكنت أعاني من صداع يقلقني يخف الصداع أثناء اتصالي مع ذلك الأخ الحبيب، وأشعر أن الصداع يتناقص تدريجياً، الصداع الذي لم تبطله جميع المسكنات، واليوم لو اتصلت ببعضهم لأصابك صداع قد لا يفارقك لأيام!
أبا بلال، كأنك غادرت هذه الجموع الحاشدة بالأمس القريب قبل غروب الشمس، وليس قبل ربع قرن بأيامها ولياليها.
سبحان من يضع القبول لمن شاء من عباده في الأرض، فيحبه أهل الأرض بعد أن يحبه أهل السماء، وإني أراك منهم وهم في الناس قليل، بل هم اليوم أقلُّ من القليل.
لا أنسى أمسية ذلك اليوم قبل ستة وأربعين عاماً، يوم لقيته في أحد المتاجر في مادبا فتقدم مني وسلّم علي بحرارة وقال: هل أنت فلان؟ قلت: نعم، فكرر ترحيبه وهش وبش وقال: لا بد أن تزورني الآن، فاعتذرت بكل أنواع الأعذار، لكنني لم أستطع زحزحة تصميمه في استضافتي في بيت والده رحمه الله، ومن هنا اتصل القلب بالقلب والروح بالروح دون سابق إنذار وهل القلوب بأيدي أصحابها؟ وبعدها غادر إلى مصر لإكمال دراسته، وأنا ذهبت إلى حواره في معهد المعلمين، أنتظر ما يجود به ساعي البريد لتشرق شمس رسالة من الجنوب الغربي من عين شمس، وهو شهر طويلة أيامه، ولا يحطم طول ساعاته إلا “مشروع الكتاب” الذي سيصل على شكل رسالة من ثلاث صفحات أو نحوها، فيها من لغة القلب أعمقها، ومن تصويب اللسان واللغة بأدبٍ جم عظيمها، وفيها من التوجيه الدعوي لا السياسي أجمله.
ولا أنسى معاناة جديدة بعد معاناة انتظار الرسائل حيث كنَّا في انتظار الإفراج عنه من السلطات المصرية التي اعتقلته لعدة أسابيع، عندما زارها بعد تخرجه، فاعتقل هناك ربما بوشاية حاقدة من عيون كانت تتابعه، ولعلها تدرك أن سيكون له شأن عما قريب، وأسرّ لي رحمه الله بعد عودته بقوله: لم أذكر لهم اسماً كاملاً صحيحاً إلا اسمك من أربعة مقاطع فاحذر.
وأما ثالثة الأثافي فهي بعد أن طبَّقت شهرته الآفاق، وسبقه ذكره الطيب، واكتشفه عِليةُ القوم، ومن لم يحبه منهم احترمه مرغماً لسمو أخلاقه وسعة أفقه وقوة حجته وكريم يده، ولكثرة اللغات الاجتماعية والسياسية التي كان يتقنها دون تكلف، فهو المهندس المدني، والشاعر النبطي، وخطيب الجمعة المفوه، والمحلل السياسي، والمفاوض الناجح في تقريب وجهات النظر بين معظم المختلفين معه.
كانت الفاجعة بمرضه الذي كان يرتجف الناس من مجرد ذكر اسمه حينذاك، علماً أن لا قدرة للمرض على موت أحد، ولا قدرة للشفاء على إطالة عمرٍ كذلك.
بعد رحلته الأولى الطويلة للعلاج التي حظي فيها بمرافقته ربما أقرب الناس إلى روحه وفكره الأستاذ صديقه عماد أبو دية، حزم حقائبه هذه المرة ليبقى في الانتظار تسعة أيام متتاليات لعله يستقبل المودعين في المستشفى الإسلامي، وكنت بجانبه لا تفصلنا إلا ساعات النوم، حتى ضحى 20/ 6/ 1992م حيث اجتمع عليه مع مرارة الدواء المتتابع، مرارةُ الواقع والمستقبل المجهول للأمة، والخوف من مستقبل العلاقة مع الصهاينة التي أطلت نذرها بعد كامب ديفيد ومدريد وأوسلو، ولم يسمع بوادي عربة بعد.
صحيحٌ أنَّ حبال الهواء جميلة للعاجزين، ومع ذلك كنا نتعلق بها لعل وعسى أن يشفيه الله.
وبينما كنا في صراع دائم بين الأمل بشفائه، والاستعداد لوفاته وهي حقيقة واقعة تُنتظر بين لحظة وأخرى، حتى أننا طلبنا قبلها بليلة من أحد الإخوة أن يبحث عن مكان قبر له في المقبرة القديمة داخل المدينة التي أحبته وعَمَّرها بيده وعقله ثماني سنين متتاليات، فلما أخبرنا أنه وجد مكاناً، وحُفر القبر وجُهّز، انفجرنا عليه غضباً – سامحنا الله – وفي صباح السبت العشرين من يونيو 1992م غادر (أحمد) إلى لقاء ربه محموداً وتركنا نعافس الدنيا ونطلب سرابها، نخوض ونلعب ونجتر آلامنا بلا أحمد هذه المرة، والأردن اليوم أحوج إلى مثله من حاجته قبل ربع قرن، ولكن عسى الله أن يبارك في ذريته وأن يخلفنا خَيْراً وأن يجمعنا به في الجنة.
أظن وأنا على يقين أنَّ في قلب كل من عرفه مقالاً طويلاً لو تكرم علينا به لكان سِفْر وفاء يستحقه الرجل ليكون بمتناول يد الجميع محل عبرة ودرس، ورحم الله الشيخ حسني أدهم جرار الذي كتب عنه جزءاً من كتاب، وجزى الله الأستاذ فاروق بدران حفظه الله الذي كان أول من كتب عنه، ولكن لا يزال لأبي بلال علينا حقوق كثيرة منها الوفاء له.
وأتمنى على كل من يقرأ هذا المقال أن يتكرم مشكوراً بإرسال المساهمة التي يستطيعها بالكتابة عن الراحل، بحدود صفحتين أو ثلاثة على البريد الإلكتروني:
Salem.falahat@hotmail.com