في ليلة من ليالي هذا الأسبوع بلجة صافية ساكنة، لا حارة ولا باردة، كأن فيها قمراً ساطعاً لا يرمي فيها بنجم، أطفأتُ مصباح مكتبي المتصل بحديقة المنزل، وخرجت إلى الحديقة أقلب وجهي في الفلك الأعظم تارة، وأُراجع ترجمة حياة وردة كانت أمامي تارة أخرى؛ فرأيت من وراء بدائع صنع الله بدائع في نظام خلقه يكاد قليل ما نعرفه من أسرارها يبهر عقول العقلاء منا، فتخر الجباه خاشعة لبديع السماوات والأرض..
فكرت في نسيج الوردة القائمة أمامي على غصنها تُسبح بحمد الله خالق الأزل والأبد، وما بينهما من ملايين الدهور، ورحت أحلل في ذهني دقائق نسيجها، وأتذكر ما كنت تعلمته في المدرسة عن ملايين الذرات التي تتألف منها أنسجة الوردة، والحركات العجيبة التي تتحركها كل ذرة من تلك الذرات، والحياة المستقلة والمتضامنة التي تحياها الخلايا في غذائها ونكاحها وحملها وولادتها وموتها، بما لا يُعد شيئاً مذكوراً في جانبه كل ما وصل إليه حذق الإنسان في صناعاته ودقيق آلاته وعجيب مخترعاته، المسروقة من أسرار صنع الله، والمزورة عنها بطريق التقليد المفضوح، ورجعت إلى تاريخ الوردة أستعرض سيرة أجدادها، والصفات التي تتوارثها أمة الورد نسلاً بعد نسل، والمواهب التي تكتسبها بعض هذه الأنسال من بيئاتها ومصاهراتها، وتأملت في استعدادها للنمو والتوليد، وفي تذكرها أصولها، ورجوعها إلى سابق صفاتها بعد طروء التطورات الجديدة عليها، وكيف تسير في ذلك كله على أنظمة غاية في الدقة، وبأوضاع في منتهى الحكمة، فوقعت ساجداً ذليلاً لعظمة البارئ الحكيم .
كانت ليلة مباركة خشعت فيها لمقدر أنظمة الوجود والفناء في صنوف كائناته الأرضية: من أمم الجراثيم، إلى عوالم النبات والشجر والثمر، إلى طوائف الحيوان، ساكنات التراب والهواء والماء، من زواحف ودواب، وسابحات وطائرات؛ وقلت: هذا كله في كرتنا الأرضية، وهي نجم صغير حقير، في كون واحد من ملايين الأكوان الدائرة في أفلاكها بنظام دقيق، ومقادير محددة، وأبعاد معينة، وحركات مؤقتة ومقننة، وكل هذه الأجرام الهائلة المخيفة الهاوية في مداراتها، والقاذفة بشررها، المسافرة أشعتها سفراً أسرع من البرق في رحلات تستمر عشرات السنين بين مصدر تلك الأشعة ومواقع أضوائها وظلالها.
فكيف بالتدبير الإلهي لمجموع مخلوقاته!
والحياة، الحياة، كيف وُجدت في كون كان سديماً وغازاً، ثم اشتعل السديم والغاز ملايين السنيين فكان جحيماً، ثم برده صقيع الأجواء التي يتروح فيها فصار جماداً؛ فكيف نشأت في الجماد الحياة، حياة الوردة، وحياة الهرة، وحياة النحلة، وحياة الببغاء، وحياة السمكة ذات الخراشيف اللاصقة، وحياة النبات الجميلات اللائي يعملن في روايات السينما؟ كيف تحولت تلك السدم والغازات والمواد المتأججة حتى صار منها وردة وهرة ونحلة وببغاء وسمكة وغادة غضة بضة!
هذا تقدير عظيم، هذا تقدير البارئ العليم، هذا تقدير القادر الحكيم.
كل شيء قدره القادر الأعظم بقدره، ولكل خلق من بديع مخلوقاته سنن وأنظمة دقيقة لا يعرف منها هذا البشر الجاهل المغرور، إلا كما يعرف الطفل من حكمة انتقال الأصوات من وراء البحار إلى آلة الراديو، فيدور وراء صندوقها باحثاً عن الإنسان الذي يرسل صوته منها..
كل شيء بقدر، ولكل شيء نظام، وكلها أنظمة عادلة حكيمة محكمة، والناس منهم أعمى البصيرة، ومنهم البصير.
وأعمى البصيرة يحتقر البصير ويستصغره ويستهجنه، والإنسان عدو ما جهل..
لكل شيء قدر معلوم، وكل شيء بقدر، وكل ذلك قائم على العدل والحكمة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الليل والنهار بقدر وحساب ونظام.
الشمس والقمر بقدر وحساب ونظام.
الصحة والمرض بقدر وحساب ونظام.
الغنى والفقر بقدر وحساب ونظام.
الاستقلال والاستعباد بقدر وحساب ونظام.
النماء والفناء بقدر وحساب ونظام.
الهدى والضلال بقدر وحساب ونظام.
القضاء قضاء عادل دقيق لا يبلغه أعدل الأقضية التي يترنم الناس بمدحها وحمدها، والقدر حساب دقيق في مقاييسه وموازينه لا تبلغه في الدقة موازين الجواهر في الصاغة، ولا موازين السموم في الصيدليات.
ولكن دائرة القضاء والقدر الإلهي محيطة بما نعلم وما نجهل، محاسب في (حيثياتها) على ما قيدناه في دفاتر (تحقيق الشخصية) من وقائعنا وأعمالنا وتقوانا وإسرافنا، وعلى ما نسينا تقييده من ذلك.
أعرقُ وأقف في مجرى الهواء فأمرض، ثم أزعُم أن الله قدر المرض وقضى به، نعم إنه قدر المرض وقضى به، ولكنه قدر بحق وقضى بعدل.
وأسير بين خطى الترام، وأفكر في أمور أخرى غير ما أنا فيه، فتفجؤني مركبة الترام وتفجع بي أولادي، وتقول الصحف في صباح اليوم التالي مات بقضاء وقدر، نعم بقضاء وقدر، ولكن الذنب ذنبي.
لكل شيء قدر، وكل شيء بقدر، ومن القدر أن لكل نجم فلكاً ومداراً لا يتعداه، وللسمك البحر، فإذا خرج منه إلى البر هلك، وللإنسان التقوى فإذا لم يضعها دائماً بين عينيه زلت قدمه، وللنتائج مقدماتها وأسبابها، فإذا لم يتوصل إليها بها كانت العاقبة الفشل.
الصلاح كلمة ذات وجوه كثيرة، ولكل وجه حساب خاص في كتاب القضاء والقدر.
قد أتصف بالصلاح في زراعة أرضي، ولكني أكون غير صالح فيما أتصرف به من الأموال التي أجنيها من براعتي في الزراعة، فأضعها في غير مواضعه، إن الله يكافئني على صلاحي في زراعة أرضي بتثميرها وتنمية حاصلاتها، ويعاقبني على سوء تصرفي بالنقود بإضاعتها من يدي.
قد تكون دولة من الدول بارعة في إنشاء الأساطيل والمحافظة عليها، وصالحة للقيام على خدمتها وإدارتها، ولكنها ظالمة لمن ائتمنها الله عليهم من عباده، تسن الأنظمة لحرمان بعضهم من ثمرات كسبهم وتمتيع البعض الآخر بتلك الثمرات، ولا تخاف الله في كثير مما تعلم أن به رضاه، فالله يكافئها على صلاحها في القيام على خدمة الأساطيل بالتفوق على غيرها في أمر الأساطيل، ويحرمها محبة الذين غمطتهم حقوقهم من عباد الله الذين تحكمهم، ويعاقبها يوم الدين بما عصت الله فيما تعلم أن به رضاه.
يكون الإنسان الواعد صالحاً في شيء وغير صالح في شيء آخر، وصلاحه في الشيء الأول لا ينافي عدم صلاحه في الشيء الثاني، وإذا رأينا الله يورث الأرض بعض خلقه ممن يحسن القيام على إدارة الأرض، فليس هذا دليلاً على الصلاح في كل شيء، بل على الصلاح في الشيء الذي أدت مقدماته إلى نتائجه.
لكل شيء قدر وكل شيء بقدر
وكما أن هذا واقع بكل دقة في نظام الأكوان، وحياة النبات والحيوان، فهو كذلك في جميع أحوال الإنسان، ومن الكفر -الكفر بالنعمة أو بما هو أكثر من النعمة- أن يعترض الفقير على كونه فقيراً، وأن يعترض المخفق في عمله على كونه مخفقاً، ومن اعتادت عينه أن ترى دقة صنع الله في كل مخلوقاته، وحكمته في حركات أكوانه، فإنه يخجل من العقل ومن المعرفة إذا ذهب إلى أن حالة من حالات بني آدم جاءت على خلاف ما كان ينبغي.
إن هداية القرآن الذي أنزله الله ليلة القدر تُرشدنا إلى أن لكل شيء قدراً، وأن كل شيء بقدر، ولكن الناس منهم الأعمى ومنهم البصير، ومنهم المؤمن ومنهم الجاحد بل الجاهل، ومنهم من يشم رائحة العلم بأسرار الأكوان شمّاً خفيفاً فيسكر بها ويكفر بالله، ومنهم من يزداد بالله يقيناً، كلما ازداد في علوم الكون إمعاناً وعلى النظر فيها إقبالاً، وأن الهدى هدى الله.
المصدر: كتاب (الحديقة.. مجموعة أدب بارع وحكمة بليغة).