أربع سنوات مرت على مجزرة الغوطة الكيميائية، بقيت معها محاسبة النظام السوري على ارتكاب الجريمة غائبة، ما سمح له بالاستمرار في مجازره، أكان داخل الغوطة المحاصرة أو خارجها. بينما تشير معطيات متزايدة إلى أن نظام بشار الأسد ما زال يحتفظ بجزء كبير من ترسانته الكيميائية، على الرغم من توقّفه عن استخدام المواد الأكثر فتكاً، إلا أنه واصل استخدام غازي السارين والكلور، خصوصاً في الغوطة الشرقية نفسها التي استهدفها بالكلور السام قبل يومين فقط، رداً على خسائره الكبيرة في حيي جوبر وعين ترما خلال محاولاته الفاشلة لاقتحامهما.
وتعرضت بلدات عربين وزملكا وعين ترما في الغوطة الشرقية، والمعضمية في الغوطة الغربية، في 21 أغسطس 2013، لقصف بصواريخ أرض-أرض محمّلة بغازات سامة يُعتقد أنها غاز السارين، انطلقت من اللواء 155 في ريف دمشق الشمالي، وأسفرت عن مقتل نحو 1500 شخص، بينهم أطفال.
وأوضح اللواء عدنان سلو، رئيس أركان إدارة الحرب الكيميائية في جيش النظام السوري سابقاً، أن النظام سلّم بعد مجزرة الكيميائي 1300 طن من الأسلحة الكيميائية فقط، بينما لديه أضعاف هذه الكمية، وأنه اعترف بثلاث منشآت كيميائية فقط، بينما لديه 23 منشأة تحت الأرض وفوقها. وأكد سلو، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن هناك 12 منشأة لم يدمرها النظام، إضافة إلى خمس منشآت تحت الأرض موزّعة في مناطق مختلفة تقع تحت سيطرة النظام في محيط دمشق وطريق دمشق-حمص.
وذكر أن النظام استخدم بعد مجزرة الكيميائي في الغوطة مادتي الكلور والسارين السامتين عشرات المرات، وهو ما أكدته أيضاً تقارير الأمم المتحدة. وأوضح أن النظام يجهز قذائف محشوة بالسارين أو الكلور وينشرها في بعض مواقعه العسكرية في محيط دمشق، وعلى طريق دمشق-حمص، مشيراً إلى أن النظام يلجأ للسلاح الكيميائي كلما وجد نفسه في مأزق وغير قادر على التصدّي لهجوم المعارضة، أو عاجزاً عن تحقيق اختراق في منطقة مهمة، فضلاً عن استخدام أسلحة أخرى محرمة دولياً، مثل قنابل النابالم.
ووفق تقرير لوكالة “رويترز”، نُشر الخميس الماضي، فإن نظام الأسد أعلن بعد الاتفاق الروسي – الأمريكي عن تدمير ترسانته الكيميائية البالغة 1300 طن، لكن عمليات التفتيش لم تمض بسهولة، إذ تعرض مفتشو منظمة حظر الأسلحة الكيميائية المتجهون إلى المنطقة لنيران قناصة، قبل أن يصلوا إلى الغوطة في نهاية المطاف، وهناك أمهلتهم السلطات السورية ساعتين فقط لمقابلة الشهود وأخذ العينات. وعلى الرغم من ذلك، أكد الفريق في تقاريره الأخيرة، استخدام غاز السارين في الغوطة الشرقية.
يضاف إلى ذلك تغيير تكتيكات قوات النظام. وفي هذا السياق، قال اثنان من المفتشين: إن الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية ركزتا على التخلص من المخزون الذي اعترف النظام بامتلاكه، بينما شرعت قوات النظام في استخدام قنابل كلور جديدة بدائية الصنع، وأكدا إسقاط ما يصل إلى 100 برميل متفجر بغاز الكلور من طائرات حوامة منذ 2014. وغاز الكلور أقل سمية من غاز الأعصاب، ويتوافر على نطاق واسع، لكن يُمنع استخدامه كسلاح بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية التي وقّعت عليها سورية عند انضمامها لمنظمة الأسلحة الكيميائية عام 2013.
وحسب مسؤول عمل مع الأمم المتحدة ومفتشي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، فقد وقعت عشرات الهجمات التي استُخدم فيها الكلور، وعلى الأقل هجوم واحد استُخدم فيه غاز السارين منذ عام 2013، الأمر الذي تسبّب في أكثر من 200 حالة وفاة وإصابة المئات. ويقول المفتشون الدوليون، إن تقارير وردت عن أكثر من 100 واقعة استُخدمت فيها أسلحة كيميائية في العامين الأخيرين وحدهما.
ونقلت وكالة “رويترز” عن دبلوماسيين غربيين قولهم: إن الوعد الذي قطعه النظام عام 2013 بالتخلي عمّا لديه من أسلحة كيميائية لتجنّب الضربة الأميركية، لم يكن إلا خدعة. ومن خلال سرد بعض تفاصيل عمليات تفتيش منشآت النظام الكيميائية، رافق ضابط سوري برتبة لواء فريقاً صغيراً من مفتشي الأسلحة الكيميائية إلى مخزن يقع خارج العاصمة دمشق، في نهاية صيف عام 2015، وكان الخبراء الدوليون يريدون فحص الموقع، لكنه طلب منهم الانتظار في السيارة، ليتبيّن في نهاية الأمر، أن المبنى خالٍ، ولم يجدوا أي أثر لمواد كيميائية محظور استخدامها. والسؤال لماذا طُلب من المفتشين الانتظار؟ ففي حين زعم الجانب السوري أنه كان يحصل على الموافقات اللازمة لإدخالهم، إلا أن المفتشين رجحوا أنه كانت تتم خلال فترة انتظارهم، عملية تطهير المكان من أي أثر كيميائي، إذ لم يبد منطقياً للفريق أن يتطلب الأمر موافقة خاصة للسماح بدخولهم إلى مبنى خالٍ.
وكشف المحققون أن ما قدّمه النظام السوري من بيانات عن أنواع الكيميائيات التي امتلكها وكمياتها، لا تتطابق مع الأدلة التي كشف عنها المفتشون في الواقع. فعلى سبيل المثال لم يتم التطرق إلى استخدام السارين، على الرغم من أن ثمة أدلة قوية على أن السارين استُخدم في سورية، بل إنه استُخدم العام الحالي في خان شيخون. وعثر المفتشون على مواد كيميائية أخرى لم يتم الإفصاح عنها، ومن بينها آثار غاز الأعصاب (في. إكس)، والريسين السام، ومادة كيميائية يطلق عليها اسم هكسامين تُستخدم في تثبيت السارين.
وخلال عامي 2014 و2015 أبلغ النظام المفتشين أنه استخدم 15 طناً من غاز الأعصاب، و70 طناً من خردل الكبريت في إجراء أبحاث، غير أن المحققين يعتقدون أن تلك الكميات ليست لها “مصداقية علمية”، على اعتبار أن “الأبحاث لا تتطلب سوى جزء يسير من هذه الكميات”، كما قال مصدران شاركا في عمليات التفتيش في سورية.
وإضافة إلى ذلك، لا يزال مصير ألفي قذيفة كيميائية مجهولاً، قال النظام إنه قد تم تحويلها إلى أسلحة تقليدية، واستُخدمت أو تم تدميرها، الأمر الذي يشير إلى أنها ربما لا تزال في أيدي قوات النظام. وفي السياق، ذكرت ثلاثة مصادر، على صلة مباشر بالأمر لـ”رويترز”، أن مسؤولين عسكريين سوريين طلبوا من شهود على صلة ببرنامج الأسلحة الكيميائية في دمشق، تغيير أقوالهم أثناء المقابلات مع المفتشين.
والواقع أن خطر استخدام الأسلحة الكيميائية ليس قائماً من الناحية النظرية وحسب، في ظل احتفاظ النظام بالجزء الأكبر من ترسانته الكيميائية، بل هو خطر ماثل فعلاً، وقد استخدمت قوات النظام غاز الكلور مرات عدة في الأسابيع الأخيرة في الغوطة الشرقية خلال محاولاتها اقتحام منطقتي جوبر وعين ترما، وآخرها يوم الجمعة الماضي.
وعلى الصعيد الإنساني، وعلى الرغم من أن الفصيلين الأبرز في الغوطة وهما “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن”، وقّعا اتفاقات مع الجانب الروسي لوقف إطلاق النار ورفع الحصار عن الغوطة، إلا أن الحصار ما زال قائماً، وما زالت قوات النظام تخرق هذه الاتفاقيات بشكل يومي. وبموجب هذه الاتفاقيات، دخلت أخيراً قوافل مساعدات إنسانية من معبر “مخيم الوافدين”، تتضمن سلالاً غذائية وأدوية ولقاحات.
وحسب مصادر في المعارضة السورية، فإن اتفاق “خفض التصعيد” في الغوطة الشرقية يتضمن التزاماً من قبل روسيا بجدول زمني محدد لإخراج كل المليشيات الأجنبية من سورية، خصوصاً التي تحمل شعارات طائفية تخالف الهوية الوطنية، إلى جانب رفع الحصار عن الغوطة، وحرية انتقال البضائع والمدنيين عبر مخيم الوافدين، وانتخاب مجلس محلي لإدارة شؤون المنطقة، وانتشار 150 شرطياً روسياً لمراقبة الالتزام بوقف الأعمال القتالية من الطرفين.
المصدر: “العربي الجديد”.