إذا كان للأم والأسرة يوم في السنة عند الأجانب يحتفلون بتكريمها فيه وهو يوم ابتدعوه ليجبروا ما تفكك من أسرهم، فإن لنا نحن المسلمين 365 يوما، وفي كل يوم خمس مرات
حسب الصلاة المفروضة، فتكون نسبة تكريمنا إلى تكريمهم 1825 ضعفا لقوله -تعالى- في سورة الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 23، 24).
أما المرأة بوصفها أماً في الإسلام فلها غاية خاصة ومركز ممتاز وشأن جليل وفضل عظيم ووظيفة سامية ورسالة خطيرة، فهي المدرسة الأولى الخالدة والقدوة المباشرة الملازمة الدائبة، وهي للأسرة مثال القلب للجسم. والأسرة هي أساس المجتمع، ووظيفتها الطبيعية السامية، فهي الأمومة المقدسة لإنجاب الأولاد، وحضانة الأطفال، والمشاركة الممتازة في حفظ النوع البشري، أما رسالتها الخطيرة فتتمثل في رعاية الأطفال وتنشئة الأولاد تنشئة صالحة وتعويدهم على أحسن العادات وأكرم التقاليد، وتهيئتهم للرجولة والكفاح وتصنع منهم الأبطال لتخرج لنا النوابغ وقادة الأمة والأوطان، وهي بعد شريكة الرجل في الحياة الزوجية والشؤون الاجتماعية اللائقة بأمومتها ورسالتها، ولئن جعل الإسلام رياسة الأسرة للرجل؛ فذلك نظام اقتضته نظم الحياة السليمة.
والواقع أن تلك الدرجة التي اختص بها الرجل إنما هي رياسة الشورى والتوجيه الحكيم السليم العادل لا رياسة الاستبداد أو الظلم والإعنات. لكن الإسلام قد عوضها عن ذلك خيرا، وأعطاها امتيازا خاصا في مقابلة امتياز الرجل بدرجة الرياسة الشورية الحكيمة والتوجيه السليم، بأن جعلها رئيسة المملكة الداخلية في بيت الزوجية والمدرسة الأولى وما بداخلها من رعاية، فقال -عليه الصلاة والسلام-: “والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها…” من حديث البخاري.
كما جعل لها الأولوية والأفضلية في مقام البر والإحسان والمعروف والتلطف، فقد سُئل رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ فقال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) وفي رواية صحيحة لرجل آخر: من أبر؟ قال: ((أمك)) قال: من من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) ثم الأقرب فالأقرب)).
وسبب هذا الامتياز الخاص إنما هي الآلام التي انفردت بها الأم عن الأب في الحمل والوضع، والفطام والحضانة والتمريض والمعالجة، والتنشئة الأولى، ولذلك نوه بذلك القرآن العظيم وأشاد بتلك المجهودات المضنية التي تتطلب نهاية الحنوّ والصبر والجلد فقال الله -تعالى-: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان: 14).
ويقول نبي الرحمة ورسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة قد خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا))، ويقول -صلى الله عليه وسلم- : ((ورغم أنف رجل أدرك عنده أبويه فلم يدخلاه الجنة))، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم)) وفي رواية: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله)).
وإن في سيرة: ((الخنساء)) الشاعرة ما يشرف الإسلام والمسلمين ونساء العرب على الخصوص حين تحرض أولادها على القتال والجهاد في سبيل الله -تعالى-، وكيف كانت تحتسب وتصبر كلما مات لها ابن شهيد، ولله -تعالى- درها حين مات ولدها الثالث في سبيل الله -تعالى- فقالت: ((الحمد لله الذي أكرمني بشهادتهم))، أما ((أسماء)) بنت أبي بكر الملقبة بـ((ذات النطاقين)) فانظر إليها أخي الكريم حين تُقبِّل ولدها عبدالله بن الزبير بين عينيه وتودعه وتقول: سر على طريقك، فوالله إنه الطريق الذي سلكه النبي-صلى الله عليه وسلم- ، واستشهد على جوانبه الأنصار والمهاجرون)) فقال لها: ولكن يا أماه: أخشى أن يمثّل بي غلمان بني أمية؟ فقالت: ((يا ولدي لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها))! حتى استشهد في سبيل الله جل جلاله والحق.
ومن أروع أمثلة مكانة المرأة بوصفها أماً وأجل معاني التكريم في ظل الإسلام ومبادئه السامية أن أعطاها حق إجارة اللاجئ وتأمين الخائف من المكروه والاعتداء عليه، فإذا أعطت المرأة المسلمة من لجأ إليها مستجيرا بها مستأمنا إياها أمانا وإجارة فإن عقدها نافذ ومحترم لدى جميع المسلمين، ولو كان المستجير بها مخالفا لنا في الدين والعقيدة، ما لم يكن حربيا، فلا يجوز لأحد من المسلمين كائنا من كان أن ينقض ما أبرمت من عقد وعهد أو يعرض له بسوء، فهاهي ذي السيدة أم هانئ رضي الله – تعالى -عنها، حين أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- تحدثه عمن استجار بها فأجارته، فما كان منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن أقر صنيعها قائلا: ((أجرنا من أجرت يا أم هانئ)).
وكما أعطى الإسلام للمرأة كأم حق الإجارة والتأمين للغير كذلك أعطاها حق النقد العام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل الرجال: فهاهو ذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يخطب فوق المنبر، وينهى الناس بشدة عن المغالاة في مهور النساء للزواج، فإذا بامرأة كانت في الصفوف الأخيرة من المسجد وراء الرجال تنقده وتذكره بقول الله -تبارك وتعالى- قائلة له: أين أنت يا عمر من قول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء: 20، 21)؟ فقال: ((رجل أخطأ وامرأة أصابت)) وزاد في رواية: ((كل الناس أفقه من عمر)).
وبعد فإن الله استمع به لشكوى امرأة هي خولة بنت ثعلبة واستجاب لها من فوق سبع سموات، يقول – تعالى -: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير)، وإن الله يرسل السلام بواسطة جبريل – عليه السلام – إلى السيدة خديجة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويبلغها الرسول الكريم به، فيقول: ((إن الله يقرئك السلام فتقول: إن الله هو السلام ومنه السلام وعليك يا رسول الله وعلى جبريل السلام)).
وبعد.. فإن دينا هذا شأنه وتلك عنايته وتكريمه للمرأة كأم، لهو دين الله الحق، دين الفطرة السليمة، دين الإنسانية والرحمة، هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله رب العالمين لخير أمة أخرجت للناس، وإن المنزلة التي وصلت إليها الأم في ظل الإسلام أسمى منزلة ينحدر عنها السيل، ولا يرتقي إليها الطير.
إنه لهو الإسلام الحنيف الذي ارتضاه الله – تعالى – للبشرية جمعاء.
——
المصدر: المختار الإسلامي