أكدت دراسة لمعهد كارنيجي للأبحاث تزايد أعداد المصريين المنفيين خارج بلادهم بسبب القمع واستهداف الحريات، وزيادة تضييق السلطات على أصحاب الراي المخالف لها، منذ انقلاب 3 يوليه 2013، ولكنها أشارت لان نشاطهم خارج مصر تقلق حكومة السيسي بسبب تأثيرهم على الرأي العام المحلي والدولي وفضحهم ما يجري في الداخل من بطش، وتسعي السلطة لتجميله.
وأشارت الدراسة التي اعدتها الباحثة “ميشيل دنّ” مديرة برنامج كارنيجي للشرق الأوسط، بالتعاون مع الباحث بالمعهد “عمرو حمزاوي” تحت عنوان Egypt’s Political Exiles: Going Anywhere but Home، لأنه بعد الانقلاب العسكري في 2013، زادت ظاهرة “المنفيين السياسيين” بعدما غادرت أعداد ضخمة من أعضاء جماعة الإخوان وأنصارها وإسلاميون آخرون البلاد.
وأنه بدءاً من العام 2014 فصاعداً، بدأ ناشطون سياسيون علمانيون، ومدافعون عن حقوق الإنسان، ومثقفون، وصحافيون، وفنانون من كل الاتجاهات، يغادرون مصر زرافات ووحدانا مع تفاقم القمع ضدهم.
وقالت الدراسة أنه من الصعب جمع معلومات شاملة عن أولئك الذين غادروا لأسباب سياسية (على غرار الملاحقة القانونية المُسيّسة أو إجراءات خارج نطاق القانون كالتهديدات أو المضايقات)، وليس لدواعٍ اقتصادية، ومع ذلك، في وسع أي كان على صلة مُنتظمة مع المصريين أن يرى ما يحدث، كما يمكن رصده من الارتفاع الكبير والمفاجئ في طلبات اللجوء السياسي وتأشيرات الهجرة للمصريين إلى بلدان أخري.
وأشارت لتضاعف أعداد المصريين الذين يتقدمون بطلبات للحصول على تأشيرات هجرة إلى الولايات المتحدة بأكثر من الضعف منذ سبع سنوات، حيث ارتفع عددهم من 534،375 في عام 2011 إلى 960،279 في عام 2013 ثم إلى 1،274،751 في عام 2018 (تم منح جزء بسيط منهم فقط التأشيرات).
كما تُظهر بيانات البنك الدولي أن 181،677 مصريًا هاجروا إلى الولايات المتحدة في 2018 و171،985 في عام 2013، مقارنةً بـ 132،513 عام 2010.
وتقول مدير معهد كارنيجي في الدراسة، أن الموجة الجديدة من المنفيين السياسيين المصريين “أكثر كثافة عدديا، وهي تضم شباباً وفئات متنوّعة سياسياً وأيضاً اجتماعيا-اقتصاديا حين تقارن بالموجات السابقة التي حدثت بين الخمسينيات والسبعينيات، وهذا يرجع لأن القمع السياسي الذي يمارسه النظام المصري الراهن لا يقتصر على مجموعة سياسية واحدة بعينها أو مجموعتين، بل يمتد ليطال العديد من الفئات السياسية والاجتماعية”.
ثلاث موجات من المهاجرين المصريين
وحول عدد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وغيرهم من العلمانيين، الذين غادروا مصر، قالت “مشيل دنّ”: “نستطيع أن نرصد ثلاث موجات متداخلة من المصريين الذين يغادرون نحو المنفى الطوعي أو الإجباري.
(الموجة الاولي): في الفترة بين 2011 و2013، غادرت إلى المنفى مجموعة صغيرة من رجال الأعمال الأغنياء المرتبطين بنظام مبارك السابق، وتلتها هجرة أعداد كبيرة من المسيحيين الأقباط الذين تخوّفوا من الصعود السياسي للإسلاميين، بعد تصاعد نفوذ جماعة الاخوان والسلفيين وفوزهم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وهؤلاء غادر أكثرهم إلى أمريكا وأوروبا.
(الموجة الثانية): جاءت بعد الانقلاب العسكري عام 2013م وحتى الآن، وفيها غادرت أعداد ضخمة من أعضاء جماعة الإخوان وأنصارها وإسلاميون آخرون البلاد”، وأغلبهم غادر إلى قطر وتركيا والسودان وأمريكا وأوروبا، وآسيا وأفريقيا.
حيث استقبلت قطر 166،840 مهاجرًا مصريًا في عام 2018 و143،960 في عام 2013 مقابل 87،727 في عام 2010 وفقًا للبنك الدولي، وذلك على الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت عداوة مفتوحة بين الحكومتين القطرية والمصرية وكذلك الحصار السعودي الإماراتي على قطر.
وأظهرت بيانات الحكومة المصرية لعام 2016 أن حوالي 25،800 مصري يعيشون في تركيا، منهم العديد من المنفيين السياسيين وكذلك بعض العمال.
وفي يوليو 2018 أعلنت وزارة العدل الكورية الجنوبية أنها ستعلق الدخول بدون تأشيرة للمصريين بسبب العدد الكبير من طلبات اللجوء المقدمة من المصريين في عام 2017، والذين بلغ عددهم 3.244 ألف مصري، قالوا إنهم أُجبروا على الخضوع لمحاكمات جنائية بسبب أنشطتهم المعارضة لحكومة السيسي.
ونوه تقرير “كارنيجي” لأن هذه الهجرة للإسلاميين، هي ثان موجة هجرة للأدمغة من التيار الاسلامي في تاريخ مصر الحديث، ففي أواخر الخمسينيات وحتى نهاية الستينيات هرب قادة وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين من مصر بسبب قمع نظام عبد الناصر لهم ومحاكمتهم عسكريا وإعدامهم واعتقالهم وملاحقتهم، وذهب معظمهم إلى دول عربية مثل المملكة العربية السعودية والكويت، بينما ذهب عدد قليل منهم إلى أوروبا.
(الموجة الثالثة): بدءاً من العام 2014 فصاعداً، بدأ ناشطون سياسيون علمانيون، ومدافعون عن حقوق الإنسان، ومثقفون، وصحافيون، وفنانون، يغادرون مصر مع تفاقم القمع ضدهم وهذا لايزال يحدث الآن وعلى قدم وساق، منهم خروج شخصيات بارزة كالممثلَين خالد أبو النجا وعمرو واكد”.
فابتداءً من عام 2014، لم يقم الحكام الجدد في مصر (نظام السيسي) باضطهاد جماعة الإخوان المسلمين ومؤيديها فحسب، بل قاموا أيضًا بمضايقة الناشطين العلمانيين الشباب الذين طالبوا بالديمقراطية قبل ثورة يناير 2011 وبعدها، مما عرّضهم لقوانين جديدة وتعديلات قانونية مرت على عجل لإبعاد المواطنين عن الحياة العامة”، بحسب كارنيجي.
ومنذ ذلك التاريخ حولت السلطات العسكرية والأمنية والقضائية انتباهها إلى الأقلية الصغيرة من الكتاب الليبراليين واليساريين والمفكرين الذين عارضوا الاستيلاء العسكري عام 2013 وأدانوا المجازر التي طالت مظاهرات واعتصامات، فواجهوا دعاوى قضائية بتهم ملفقة أو تدابير أخرى لحرمانهم من حرية السفر أو كسب الرزق. في وقت لاحق، واستهدف النظام حتى الناشطين العلمانيين الذين دعموا في البداية استيلاء الجيش على السلطة في عام 2013 لكنهم انتقدوه فيما بعد القمع الشديد للمعارضين.
وقالت إن معظم المهاجرين الجدد من الموجة الثالثة من النشطاء والكتاب والمثقفون والفنانون والصحفيون الشباب اتجهوا إلى عواصم أوروبية، مثل لندن وبرلين، وكذلك كندا والولايات المتحدة.
مخاطر هجرة الأدمغة
وحول المخاطر البعيدة المدى على مصر من هجرة هذه الادمغة أم أنها لن تسفر سوى عن تعزيز نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي؟، قالت الدراسة أن “هناك حتماً مخاطر على مصر بسبب نزف الأدمغة والكفاءات العالية التي يظهر تفوقها من حين لأخر وهي تعمل في اجواء حرة.
إذ لا يقتصر الأمر على مغادرة شخصيات عادية أو بارزة وكفاءات علمية وفنية في العديد من الحقول، ولكن هناك العديد من الكفاءات الأخرى التي تعتبر أن بيئة ما بعد الانقلاب لم تعد ملائمة، وستخرج حين تسنح لها الفرصة”.
وأشارت لأن “مصر تعاني حالياً من حالة فقر شديد في البنية الأكاديمية والمجتمع المدني بجانب، بيئة إعلامية مُغلقة، وهذا لا يوفر للبلاد سوى قلة من الكفاءات التي يجب أن تعالج القضايا الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة”، وان وجود منفيين نشطين في مجال الأعلام وحقوق الإنسان، يفرض تحديات على النظام، لأنهم سيقومون بفضح انتهاكات النظام ومن ثم منعه من التفرّد برواية واحدة لما يجري داخل مصر أمام الأسرة الدولية”.
وتقول الدراسة أنه رغم نشاط المعارضة السياسية التي يقوم بها هؤلاء المنفيون السياسيون خارج مصر منقسم نسبيا بسبب اختلاف توجهات المهاجرين الفكرية والسياسية، ويعانون من حالة الاستقطاب نفسها التي يعاني منها باق المصريين داخل البلاد، ويفتقدون إلى الثقة المتبادلة، إلا أن ممارسات النظام القمعية المستمرة، والتعديلات الدستورية التي ستُعزز سلطة الجيش وتسمح للسيسي بالبقاء في سدة الحكم حتى العام 2030 على الأقل، وتزيد من غلق ابواب أن العمل السياسي كلياً في مصر، ستشجع هؤلاء المنفيون علي توحيد جهودهم، و”بروز نشاط سياسي مصري أكبر في المنفى”.
المنظمات الحقوقية هاجرت
أيضا ادي نقل العديد من المنظمات الحقوقية المصرية انشطتها خارج مصر لاستمرارها في فضح انتهاكات النظام لحقوق الإنسان والضغط على الحكومة المصرية من الخارج من قبل العديد من المدافعين عن الحقوق الذين أُجبروا على اللجوء للمنفي بتهم أو إدانات لا أساس لها من الصحة.
كما دمجت بعض هذه المنظمات انشطتها بمنظمات حقوقية دولية مجموعات دولية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وفرونت لاين ديفندرز، أو أنشأت منظمات جديدة وكلها تسببت في مزيد من الضغوط على نظام السيسي بسبب نشر تقارير عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وتقديم شهادات عامة متكررة أمام البرلمانات الغربية وهيئات الأمم المتحدة مثل مجلس حقوق الإنسان في جنيف. تجمع عدد من هذه المجموعات معًا لتشكيل المنتدى المصري لحقوق الإنسان في مارس 2019.
إعلام الخارج صداع في رأس النظام
منذ عام 2013، أنشأ المنفيون من الإعلاميين والصحفيين المصريين عددًا من وسائل الإعلام باللغة العربية ومواقع الإنترنت، التي اكتسب بعضها جمهوراً كبيراً داخل مصر وكذلك في الخارج، مثل محطات التلفزيون الفضائية “الشرق” و”مكملين”، و”الوطن” التي تبث من تركيا، فضلاً عن موقع “رصد” الإخباري والعديد من مواقع الانترنت، وجزء كبير منها تابع لجماعة الاخوان المسلمين.
كما شغل العديد من الصحفيين المصريين وظائف مع وسائل الإعلام العربية الموجودة في الدوحة أو لندن، مثل الجزيرة، قناة العربية، وجريدة العربي الجديد، التي تمولها قطر وتنتقد الحكومة المصرية، واشتهرت برامج في بعض هذه الفضائيات بنقدها الشديد للسلطة ونشر تسريبات للنظام، وتشكل صداعا لسلطة السيسي.
وبسبب ارتفاع نسبة مشاهدة قنوات المعارضة المصرية في الخارج، وهو ما رصدته شركة ابحاث التسويق “ابسوس” IPSOS، مقابل تناقص نسب مشاهدة القنوات المصرية التي تسيطر عليها الحكومة ورجال الاعمال المقربين منها، رفعت العديد من القنوات المصرية دعاوى قضائية ضد IPSOS عام 2014، لأن التصنيف المتدني في استطلاعات المشاهدين للشركة قلل من إيراداتها، وانتهي الامر بمنع الحكومة لشركة الابحاث الفرنسية من القيام باستطلاعات.
ووصل الغضب من شركة ابحاث “ابسوس” إلى ذروته في عام 2017 بعدما نشرت استطلاع (لم يعد متوفراً على موقعها) يظهر أن قناة “مكملين” كانت القناة الفضائية الأكثر مشاهدة في مصر للعام الثاني على التوالي، فأمرت الحكومة المصرية بإغلاق مكتب الشركة بالقاهرة يوليو 2017 لسبب تافه هو “انتهاكات الصحة والسلامة في مكان العمل”!.
وفي سبيل محاربة هؤلاء المنفيين الاعلاميين النشطاء، استخدمت الحكومة المصرية بشكل منهجي أدواتها القمعية لاستهداف هؤلاء المحترفين الإعلاميين وغيرهم من الناشطين في المعارضة المصرية، مثل رفض تجديد جوازات سفر أعضاء المعارضة، أو مقاضاتهم أو فرض عقوبات عليهم غيابياً، وتهديد عائلاتهم بالمحاكمة والسجن.