رغم مرور 50 عاماً على إحراق المسجد الأقصى لا تزال الكثير من تفاصيل الحادثة التي وقعت بتاريخ 21 أغسطس 1969 مجهولة بالنسبة للكثيرين، أبسطها أن الأسترالي مايكل دينيس روهان الذي قام بإشعال النار في المسجد القبلي ليس يهودياً كما يظن الكثيرون، بل هو مسيحي متطرف، كان تابعاً لكنيسة “الرب” الأمريكية، بولاية كاليفورنيا.
ولهذه الكنيسة، التي أسسها القس هيربرت آرمسترونغ تحت مسمى “كنيسة الرب”، دور قديم في “الحفريات” الإسرائيلية، التي أجريت تحت المسجد الأقصى، وتدعو صراحة لإقامة “الهيكل” مكان المسجد.
وفي ثلاثينيات القرن الماضي، أسس القس آرمسترونغ “كنيسة الرب” في مدينة باسادينا بكاليفورنيا في الولايات المتحدة.
وفي عام 1967 وبعد احتلال “إسرائيل” الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية والمسجد الأقصى بأيام، كتب مؤسس هذه الكنيسة مقالاً في عدد شهر يونيو من مجلة “The Plain Truth” التي تصدر عن كنيسته، تناول فيه أهمية هذا الاحتلال بالنسبة للمسيحيين الصهاينة.
وجاء في مقاله تحت عنوان “اليهود يحتلون القدس!”: “الإسرائيليون انتصروا في حرب خاطفة على طريقتهم، المراسلون الصحفيون لا يدركون معنى ذلك، المحررون والمعلقون لا يدركون أهمية ذلك، الإسرائيليون أنفسهم لا يعلمون معنى ذلك، لكن يمكنكم أن تعلموا، ما جرى هو أحد الإنجازات على طريق تحقيق النبوءة التوراتية”.
ويتابع آرمسترونغ: “سوف يُبنى هيكل يهودي في القدس، وستقدم فيه القرابين من جديد.. وسيحدث هذا خلال أربعة أعوام ونصف عام، سيستغرق بناء هيكل كهذا بعض الوقت.. ولا أدري كيف يدعون الشهور تمر.. سيكون هناك هيكل في القدس قريبًا، وسوف تقدم فيه القرابين كل يوم”.
على بعد آلاف الأميال في أستراليا، كان مايكل دينيس روهان مشتركاً في مجلة هذه الكنيسة، وعندما قرأ مقالة آرمسترونغ، دفعه هذا النص ونصوص أخرى إلى الذهاب إلى القدس عام 1969 من أجل تحقيق نبوءة آرمسترونغ.
وفي تحقيق أجرته إذاعة “إيه بي سي” الأمريكية، اعتبرت الإذاعة أن روهان صار يعبر عن “الآرمسترونغية” كفكرة، ما دفع الكنيسة إلى التنصل من فعلته.
لكن روهان فعلياً كان يحضر الفعاليات الدينية في “كنيسة الرب العالمية” التابعة لآرمسترونغ، وظهرت صورة لروهان على صفحات صحيفة “الديلي تليجراف” البريطانية، وهو يحمل في جيب معطفه عدداً من مجلة “The Plain Truth” نفسها.
في شهر أغسطس عام 1969 جاء روهان إلى القدس وتجوّل فيها وفي المسجد الأقصى وشرع بالتخطيط لتنفيذ جريمته.
وبينت التحقيقات أن الحريق الذي شبّ في المسجد الأقصى في 21 أغسطس كان المحاولة الثانية لحرقه، فقد حاول روهان إشعال النار في المسجد القِبلي قبل ذلك بعشرة أيام، أي في الحادي عشر من الشهر ذاته، حيث سكب مادة البنزين من فتحة مفتاح أحد أبواب المسجد، وصنع فتيلاً من حبل بعد أن بلله بالبنزين وأدخله من فتحة المفتاح وأشعله، لكن الضرر انحصر في الباب فقط، فأعاد الكرّة بعد عشرة أيام ونجح فيها.
بعد ارتكاب روهان جريمة إحراق المسجد الأقصى، نأت كنيسة آرمسترونغ بنفسها عنه وقالت: إنه ليس من أتباعها، وهو فقط كان يتلقى المجلة التي تصدرها الكنيسة مثله مثل مئات آلاف المشتركين الآخرين.
تعاون الكنيسة مع “إسرائيل”
لكن العلاقة بين الكنيسة والمسجد الأقصى لا تنحصر بروهان فقط، فهناك علاقة لا تزال مستمرة بين الكنيسة والمؤسسات التي انبثقت عنها التي تتبنى فكرة ضرورة بناء الهيكل مكان الأقصى تمهيداً لعودة المسيح، مع المؤسسات الإسرائيلية الناشطة في البحث عن أي آثار في المسجد الأقصى، ترتبط بما يسمى هيكل سليمان، وتسعى لإثبات الزعم أن المسجد الأقصى مقام على أنقاضه.
وشاركت الكنيسة فعلياً في عمليات الحفر حول وتحت المسجد الأقصى بحثاً عما قد يثبت الزعم عن وجود آثار الهيكل هناك.
وتظهر عدة وثائق وصور آرمسترونغ نفسه يشارك في نشاطات مع بنيامين مازار، وهو مؤرخ “إسرائيلي” يعتبر عميد علماء الآثار التوراتيين، الذين عملوا تحديداً في محيط المسجد الأقصى، كما جند الكثير على المستوى الدولي للمشاركة في هذه النشاطات.
ويشير موقع www.keytodavidscity.com المتخصص في قضايا الحفريات في المسجد الأقصى إلى دور مؤسسة آرمسترونغ في الحفريات، فقد زار آرمسترونغ مازار وطلب أن يكون جزءاً من “الحفريات المهمة”، وقام بتوفير الدعم من خلال كلية الفنون التي أسسها في باسادينا، للمتطوعين الذين كان يرسلهم في عطلة الصيف.
كما زار مازار الكلية في الولايات المتحدة وعقد معها اتفاقاً للتعاون مع رفضه ثلاثة عروض من جامعات أخرى، ولاحقاً تم إرسال 70 متطوعاً من طلبة الكلية ليشاركوا في الحفريات مع شركائهم “الإسرائيليين”، وتواصلت هذه العلاقة لعقود، خاصة أن تكلفة عمليات الحفر تم تقاسمها بين الطرفين.
وفي عام 2013، أطلقت د. إيلات مازار (حفيدة بنيامين مازار) المرحلة الثانية من الحفريات في محيط الأقصى، وأرسلت كلية آرمسترونغ 15 طالباً للتطوع في هذه النشاطات.
“إسرائيل” وإحراق الأقصى
سعت “إسرائيل” –كما تشير المصادر العبرية- إلى النأي بنفسها عن حادثة إحراق المسجد الأقصى كي لا تتهم عالمياً بأنها وراء الحادثة، وسارعت إلى اعتقال روهان وعقدت له محاكمة علنية، كما استدعت الطبيبة النفسية التي كانت تعالجه في أستراليا، واستدعت أيضاً خبيراً نفسياً بريطانياً، لكي تثبت أن من قام بالعمل مريض نفسي نفذه بشكل منفرد ولا علاقة لها بذلك.
وادعت المحكمة أن روهان مريض نفسياً، ويعاني من حالة حادة من انفصام الشخصية، وحين قام بجريمته قام بها دون إدراك، لذلك لا يستحق السجن على جريمته بل يحتاج علاجاً نفسياً.
لكن من عايشوا حريق المسجد الأقصى وشاركوا في عمليات إطفائه يتذكرون تماماً كيف عرقلت قوات الاحتلال الإسرائيلية عمليات وصول سيارات الإطفائية إلى ساحة المسجد، أطول فترة ممكنة كي يستمر الحريق فيه لعله يأتي عليه بالكامل.
بالعودة إلى روهان، فقد اعترف خلال التحقيق معه أنه يعتقد “أنه مبعوث من الله، وأنه تصرف وفقًا لأوامر إلهية بتدمير المسجد الأقصى حتى يتمكن اليهود من إعادة بناء الهيكل، لتسريع المجيء الثاني للمسيح المخلص حتى يحكم العالم لمدة ألف عام”.
حاكمت “إسرائيل” روهان، وسعت إلى إثبات أنه مريض نفسياً، وبعد خمس سنوات من السجن وتحديداً في أبريل 1974 تم إبعاده إلى أستراليا حيث تم احتجازه في مصحات عقلية، وتوفي عام 1995 وكان حينها يتلقى العلاج النفسي لإصابته بانفصام حاد في الشخصية.