المسيحية الكاثوليكية لها دولة مستقلة اسمها دولة “الفاتيكان”، ولها سفاراتها وتمثيلها الديبلوماسي ورئيس يجمع بين رئاسة الدولة والقيادة الروحية العابرة للدول والقارات، ورؤساء أمريكا لا تغيب المسيحية عن خطابهم بل وتوجيه تصرفاتهم بما فيها الحروب، والهند يحكمها حزب هندوسي يعلن انتماءه الديني في كل برامجه، والكيان الصهيوني أعلن بكل صراحة ووضوح يهودية الدولة.
فمسألة فصل الدين عن السياسة خرافة وأكذوبة يتم ترويجها فقط حين يتعلق الأمر بالإسلام. ويبقى السؤال: ما هي مشكلة الغرب مع الإسلام وبالتحديد ما يسمونه “الإسلام السياسي”؟
المشكلة تتعلق بالطرفين؛ تتعلق بالإسلام ذاته، وتتعلق بالغرب.
مشكلة الإسلام –حسب المنظور الغربي- أنه رسالة عالمية وشاملة، وأنه ليس محصورا جغرافيا كالهندوسية والبوذية، وليس مخصوصا لشعب مختار كاليهودية، وتشترك معه المسيحية في العالمية وتفارقه في الشمول وقابلية التطبيق.
مشكلة الإسلام أنه يسوس أتباعه، ويحدد لهم ضوابط نشاط حركتهم اليومية فيما يأكلون وفيما يلبسون، ويضع ضوابط لمصادر كسب أموالهم وإنفاقها، وكافة أنشطتهم.
باختصار: هو تصور شامل لخلق عالم متناغم بين السماء والأرض، بين الروح والمادة، بين الله والإنسان، دون قابلية للفصل أو التجزئة.
ومشكلة الغرب هي عقدة تفوق الجنس الأبيض، عقدة المستعمر الذي يتصور نفسه في دور المعلم والمهيمن والمسيطر، فكيف لمن هم أدنى أن يأتوا بثقافة جديدة ومؤثرة وسريعة الانتشار وطاغية الحضور وتغزو عقر دار الغرب؟
إنه كابوس بالنسبة للساسة الغربيين، فمنذ زمن ليس بعيدا كانت هذه الدول تحتل بلاد المسلمين وغيرهم في آسيا وأفريقيا، وكان أهم دور يقومون به في سبيل الهيمنة، هو نشر الثقافة الغربية، وأول درجات سلم نشر الثقافة الغربية هو تحقير الثقافة الشرقية، دينا ولغة وعادات وتراث وتاريخ.
اليوم انقلبت الآية، وأصبح الغرب يستشعر غزوا ثقافيا إسلاميا في عقر دارهم، أصبح في أوروبا مسلمون متوطنون يحملون جنسية البلاد الغربية، ويمثلون رقما عدديا سواء من المتجنسين أو المهاجرين أو من معتنقي الإسلام من الأوروبيين، ولم يعد المسلمين في الغرب عمالا وطلابا يقيمون لفترة مؤقتة كما كان في الأمس، بل أصبح منهم علماء وأكاديميون ومهنيون، وأصبح العديد منهم ملتزما بدينه ومعتزا بذاته ومؤثرا في مجتمعه الغربي، ويقدمون بإخلاص خدمات لمجتمعاتهم الغربية ويحملون لها الولاء، ولا يجدون تناقضا بين كونهم مسلمين ملتزمين وبين كونهم مواطنين غربيين.
هذا هو مصدر الإزعاج الرئيس للساسة الغربيين، فالإسلام كعقيدة أسرع الأديان انتشارا في أوروبا، وتأثير المسلمين الغربيين يزداد يوما بعد يوم.
وسأضرب مثلاً لهذا التحول الثقافي في أوروبا، وهو: انتشار الطعام الحلال.
حين احتلت أوروبا أفريقيا وفي يدها اليمنى السلاح وفي اليسرى الإنجيل، كانت القبائل غير المسلمة يشربون الخمور التي يصنعونها في منازلهم من مصادرهم الطبيعية، وحين أتى الغرب المسيحي، أنشأ في أفريقيا مصانع للخمور، وأصدر قوانين تحظر صناعة الخمور بالطرق التقليدية في البيوت ليجبر الأفارقة على شراء الخمور من مصانع الغربيين، وحتى الآن ما زال هذا القانون ساريا في العديد من الدول الأفريقية، وقد نجح الغرب نجاحا كبيرا في ترويج خموره في المجتمعات غير المسلمة بقدر نجاحه في ترويج تجارة الأفيون في الصين، في حين كان نجاحه محدودا جدا في ترويج الخمور في المجتمعات الإسلامية.
فحين يأتي المسلمون اليوم وفي عقر دار الغرب وينشئون ثقافة جديدة هي الأكل الحلال الخالي من الخمور والكحول ولحم الخنزير، ويزيد عليها الطلب يوما بعد يوم حتى من غير المسلمين، فهذا -في حد ذاته- ثورة ثقافية واقتصادية، واختراق غير مسبوق للثقافة الأوروبية، وله مصدر وحيد هو المسلمون.!
إنه أزمة فعلية لساسة الغرب المتربعين على كرسي الهيمنة الثقافية والاقتصادية؛ أن تحاول أنت الخروج عن السيطرة، وأن تتحول من مستهلِك لمنتج، من تابِع لمَتبوع، من مقلِد لمقلَد، إلى أن تصبح إنسانا مستقلا ذا اعتزاز بنفسك وهويتك ودينك وتقاليدك، هذا شيء لا يُطاق عند زعماء الغرب!
وهذه هي أزمة الغرب مع الإسلام:
أزمة دين عالمي شامل لا يمكن فصل عقيدته عن شريعته، وغرب يتشبث بكرسي الهيمنة والاستغلال والسيطرة والغطرسة.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.