- أوروبا بين الشعبوية والإرهاب (الجزء الثاني)
كنا تطرقنا في الجزء الأول من هذا المقال إلى وجود ترسانة في أوروبا لمكافحة الإرهاب. ومع هذا لم تتوقف العمليات الإرهابية بسبب وجود إخلالات أمنية، ولكن أيضا بسبب عدم التصدي لجذور المشكلة وهي الشعبوية المتصاعدة على المستوى السياسي والإعلامي والديني.
كيف أثرت هذه الشعبوية على الأوضاع الأوروبية؟
سياسة الكيل بمكيالين
إن تصاعد موجة شعبوية اليمين المتطرف بخطابه المستفز والمحفّز أحيانا على ارتكاب أعمال إجرامية وإرهابية، يقابله تصاعد شعبوية شريحة من الشباب المسلم المقيم في أوروبا ولكنه غير متجذر في المجتمعات الأوروبية، ولديه إحساس بالانبتات لأسباب وعوامل عدة منها الفقر والتهميش ولديه أيضا مفاهيم وقناعات خاطئة تقوم على تكفير غير المسلم. وقد ينزلق بعضهم في أعمال عنف وإرهاب.
إن المسؤولية السياسية والإعلامية تتمثل في ازدواجية التعاطي مع الفريقين؛ فنادرا ما يتم وصف الأعمال الإجرامية التي يقوم بها متطرفون ينتمون إلى أقصى اليمين بالإرهاب، بل يُنعتون بـ”القوميين المتشددين” «UltraNationalist» رغم أنهم يتسبّبون في قتل أو جرح أبرياء من المصلين وغيرهم. وأحيانا يوصفون بالمعتوهين والمرضى عقليا، بحيث يكاد يصبح المجرم ضحية. ثم إن مواقف المسؤولين السياسيين تكون في شكل تصريحات باهتة..
تعمّد الربط بين الإرهاب والإسلام
أما إذا تعلق الأمر بأعمال إجرامية يقوم بها شباب مسلم فإن القيامة تقوم ولا تقعد. وتنزل السلطات بثقلها للتنديد بما حصل. وأول ما يوصف به هؤلاء بـ”الإرهابيين الإسلاميين” « Terrorist Islamist » . ويكفي التوقف عند هذا المصطلح الذي يربط الإرهاب بالإسلام لنفهم وقع الصدمة وتأثيرها على الرأي العام، والحال أن بعض وسائل الإعلام ذات الصدى الواسع لا تتوقف عن تكرار هذا المصطلح ليل نهار بعناوين كبرى في القنوات التلفزية وعلى أعمدة الصحف.
إن مثل هذا التعامل القائم على الازدواجية يقود إلى الاستنتاج بوجود سياسة الكيل بمكيالين. وبالرغم من تنديد المؤسسات الإسلامية بالعمليات الإرهابية، واستنكارها لربط الإسلام بالإرهاب، فإن بعض السياسيين والإعلاميين والمثقفين لا ينفكون عن تأكيد هذه الثنائية المتلازمة في نظرهم بقصد التشويه المتعمّد. وسياسة بهذه الخلفية لا يمكن أن تولّد سوى الاحتقان وأجواء التوتر وإعطاء صك أبيض للشعبوية على كل المستويات.
الخطاب الاستفزازي
بل إن التصريحات الاستفزازية تزيد الطين بلة. وكمثال على ذلك، تصريح وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين الذي جاء فيه أن بيع المنتجات الحلال في أماكن خاصة بها داخل المحلات التجارية الكبرى يسبب له صدمة لأنه شكل من أشكال الانزلاق نحو الانعزالية.
من جهته يرى وزير التعليم الفرنسي جان ميشيل بلانكار أن الجامعات الفرنسية هي المكان الذي يوجد فيه أساتذة “إسلاميون”؛ لهذا شددت النائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي عن حزب “فرنسا المُستعصية”، مانون أوبري في مقال لها بالموقع الإخباري الفرنسي “ميديا بارت”ـ على ضرورة الرد على مثل هذه التصريحات. وذكرت أن فرنسا تشهد حاليًا وبشكل غير مسبوق شرعنة للخطابات العنصرية، يعززها السياسيون اليمينيون، وغيرهم من وسائل الإعلام المتحيزة.
فلا غرابة أن تزدهر التيارات اليمينية المتطرفة ولا تجد رادعا لها في التمادي في استهدافها للمسلمين قولا وفعلا. وتتخذ هذه التيارات أحيانا شكل ميليشيات تهدد التعايش بين مكونات المجتمع. وتتمثل خطورتها في تناميها المنظم والعنيف وفي أطروحاتها الاستئصالية لكل ما تعتبره مخالفا للهوية المسيحية وللعنصر الأبيض. وهذا يعني تراجعا كبيرا عن الانفتاح النسبي على التعددية الثقافية وتقويضا لجهود كبرى لاندماج شرائح من غير الأوروبيين في المجتمعات الأوروبية ومن بينهم المسلمون.
فهل سينتبه صانعو القرار في أوروبا إلى هذه المخاطر ويعملون على نزع فتيل التوتر ويعاملون هذه التيارات اليمينية المتطرفة على أنها إرهابية؟ أم أن العناد سيقودهم إلى النظر من زاوية واحدة، والإصرار على ربط الإسلام بالإرهاب؟ وعندئذ ستكون العواقب وخيمة.
إن صوت العقل والمنطق والحكمة يقتضي التخلي عن سياسة الكيل بمكيالين والتفاعل مع مستجدات الواقع الأوروبي، ومن أهمها تغيّر التركيبة الاجتماعية والثقافية لهذه المجتمعات التي لم تعد طيفا بلون ثقافي واحد، وإنما تداخلت الثقافات والعرقيات في عالم تحوّل إلى قرية.
مخاطر تداعيات إشعال بؤر التوتر في الخارج
ويقودنا هذا الأمر إلى الحديث عن البعد الخارجي لملف الإرهاب.
فإذا كانت الشعبوية في الداخل من العوامل الأساسية في تأجيج ردود الفعل غير المحسوبة العواقب، فإن إصرار بعض دوائر القرار في أوروبا على التعامل بسياسة الاستكبار والاستعلاء مع الفضاءات الجغرافية ذات الطبيعة الثقافية والحضارية المختلفة عن أوروبا -خاصة ما يتعلق بالعلاقات الأوروبية مع العالم الإسلامي ومع المستعمرات القديمة عموما- سيؤدي لا محالة إلى توترات تدفع ضريبتها أوروبا إن آجلا أو عاجلا. وهذا ما حدث بالفعل خلال العقود الأخيرة؛ حيث إن بؤر التوتر التي تم إشعالها في منطقة الشرق الأوسط وغيرها تسببت في كوارث وهجمات إرهابية في قلب أوروبا.
في هذا السياق، تتنزّل سياسة بعض البلدان الأوروبية في التدخل في الشأن الداخلي لبلدان عربية وإسلامية بما يخدم مصالحها (صفقات بيع الأسلحة وغيرها) ولكن على حساب شعوب هذه البلدان بما يتسبب أحيانا في تشكيل بؤر توتر مثلما حصل في سوريا والعراق وليبيا.. وبروز منظمات داعشية حوّلت أهدافها إلى قلب القارة الأوروبية. ولم يتم استقطاب عناصر من داخل أوروبا للقيام بعمليات إرهابية فحسب، بل تم توظيف عناصر لاجئة إلى أوروبا. والنتيجة تهديد الأمن الأوروبي باستمرار في ظل عدم استقرار أوضاع بلدان ذات بعد استراتيجي في منطقة ما يسمى بدول الجنوب.
وأمام هذه الإشكالية، تلجأ دوائر القرار في أوروبا إلى حلول أمنية واستخباراتية، ومن بينها تعزيز التنسيق الأمني ومراقبة الحدود والحديث عن إمكانية مراجعة اتفاقية شينغن التي تقرّ حرية تنقل البضائع والأشخاص. هنا أيضا يتم التأكيد على معالجة ملف الإرهاب من زاوية واحدة وهي الزاوية الأمنية بمزيد من الانكماش وانتهاج سياسة الانغلاق، مقابل الهروب من معالجة الأسباب العميقة، وهي وقوف بعض الأطراف النافذة في القرار السياسي الأوروبي أمام حرية تقرير الشعوب لمصيرها، والاستفادة بكل مقدرات بلدانها، والتسبّب بالتالي في زعزعة استقرار وأمن بلدان عديدة وارتفاع منسوب الفساد السياسي والمالي فيها، واستحالة تحقيق تطورها ونموّها الاقتصادي والاجتماعي، فيجنح البعض إلى التمرد بينما يلجأ آخرون إلى الهجرة غير القانونية، وقد يتم استقطاب بعضهم في عمليات إرهابية.
تشكل خارطة سياسية وثقافية جديدة
لقد ولّى زمن الاستعمار، واليوم تنتفض شعوب ما يسمى بدول الجنوب مطالبة بحقها في تقرير مصيرها وفي العيش الحرّ والكريم، بعيدا عن كل مظاهر التبعية. ولكن هذه الرسالة لم تفهمها بعد بعض الدوائر المؤثرة في صناعة القرار في أوروبا، أو بالأحرى ليس هناك إرادة سياسية لفهم هذه الرسالة الواضحة من الشعوب.
إن العالم اليوم يشهد تشكل خارطة سياسية وثقافية جديدة وتغيّر موازين القوى بحيث لم يعد الغرب وأوروبا تحديدا مركز القوة كما كان في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولعل أزمة كورونا كشفت عن حجم التحدي الذي واجهته المنظومة الصحية داخل المجتمعات الأوروبية بشكل فاق أحيانا ما عاشته بلدان فقيرة. وهذا يعني أن أوروبا الأمس ليست أوروبا اليوم، وأن هذه الأخيرة لم تعد بمعزل عن الأزمة الاقتصادية التي يشهدها العالم، وأن أوروبا لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن المخاض الثقافي والحضاري الذي يشهده مجتمعات العالم.
فهل استوعب صناع القرار في أوروبا مآلات الحرص على المصالح الضيقة على حساب مصالح الشعوب، وأدركوا ضرورة التفاعل مع المستجدات العالمية، وتعاملوا بالندية والاحترام المتبادل مع كل المكونات الثقافية والحضارية؟
هذا ما تحتاجه أوروبا اليوم للخروج من أزمة الشعبوية والإرهاب.