حينما يقع العلماء في المضايق بسبب مواقفهم، فإنه مما يثبت جنانهم أن يروا أو يستشعروا وقوف الناس بجانبهم، حتى وإن لم يملك هؤلاء الناس أن يخففوا عنهم شيئاً من البلاء.
في كثير من الأحيان يكون ساعد الحق ضعيفاً، لكن يكون لسانه ومنطقه قويين، ويستمد هذه القوة من قوة جنانه، ويستمد الجنان هذه القوة من إيمانه الوثيق بالله وأنه على الحق، وكذا بكلمة قد يسمعها من غيره تثبته وترفع همته وعزيمته، أو إحساسه أن القلوب المؤمنة به وبموقفه معه تسانده وتؤازره.
لكنه إن كان في محنته ورأى انصراف الناس عن مؤازرته فلا شك أنه سوف يشعر بخيبة أمل ومرارة وغصة.
هو يلوذ ويعتصم بإيمانه بالله حتى لا يحبط عمله؛ (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (آل عمران: 101)، لكن هذا لا يمنع من تجرعه للغصص والمرارات من مواقف الناس وانصرافهم عنه، أو انحيازهم لخصومه، وهو الذي يفعل ذلك من أجلهم، ولو شاء لصان عرضه، وحفظ دمه، وأبقى مهجته، ولبلغ المناصب العالية، ورفل في النعيم.
قد يأتي التثبيت للعالِم من أناس لا يتوقعهم وربما لا يكونون على درجة من العلم
وقد يأتي التثبيت من أناس لا تتوقعهم ولا يخطرون لك ببال، بل قد لا يكونون على درجة من العلم الشرعي أو الفكري، ورغم هذا يكون لكلامهم أعظم الوقع في النفوس، فقد «حضر أحمد بن حنبل أبو محمد الطفاوي، فذكر له حديث، فقال أبو عبدالله: أخبرك بنظير هذا، لما أخرج بنا، جعلت أفكر فيما نحن فيه، حتى إذا صرنا إلى الرحبة، أنزلنا بظاهرها، فمددت بصري، فإذا بشيء لم أستثبته، فلم يزل يدنو، وإذا أعرابي جعل يتخطى تلك المحامل حتى صار إليَّ، فوقف عليَّ، فسلم.
ثم قال: أنت أحمد بن حنبل؟
فسكت تعجباً!
ثم أعاد، فسكت.
فبرك على ركبتيه، فقال: أنت أبو عبدالله أحمد بن حنبل؟
فقلت: نعم.
فقال: أبشر واصبر، فإنما هي ضربة هاهنا، وتدخل الجنة هاهنا.
ثم مضى.
فقال الطفاوي: يا أبا عبدالله! إنك محمود عند العامة.
فقال: أحمد الله على ديني، إنما هذا دين، لو قلت لهم، كفرت»(1).
فقد يتصنع البعض الحكمة في موضع الشدة والبلاء هرباً من الوقوف في وجه الباطل والثبات على الحق، لكن تأتي الحكمة الحقيقية والتثبيت من بعض العوام الذين لا يذكرهم التاريخ ولا يعرف لهم حسباً ولا نسباً ولا عملاً غير ما ذُكر.
وهذا الالتفاف من العامة حول الإمام أحمد جعل السلطة تخاف من الإقدام على قتله، بل كانت تخشى على نفسها من العامة، يقول الذهبي: «قال ابن سماعة: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه ودمه في رقبتي، فقال ابن أبي دؤاد: لا يا أمير المؤمنين، لا تفعل؛ فإنه إن قتل أو مات في دارك، قال الناس: صبر حتى قتل، فاتخذه الناس إماماً، وثبتوا على ما هم عليه، ولكن أطلقه الساعة، فإن مات خارجاً من منزلك، شك الناس في أمره، وقال بعضهم: أجاب، وقال بعضهم: لم يجب.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: دعا المعتصم بعم أحمد، ثم قال للناس: تعرفونه؟ قالوا: نعم، هو أحمد بن حنبل.
قال: فانظروا إليه، أليس هو صحيح البدن؟ قالوا: نعم.
ولولا أنه فعل ذلك، لكنت أخاف أن يقع شيء لا يقام له.
قال: ولما قال: قد سلمته إليكم صحيح البدن، هدأ الناس وسكنوا.
قلت: ما قال هذا مع تمكنه في الخلافة وشجاعته إلا عن أمر كبير، كأنه خاف أن يموت من الضرب، فتخرج عليه العامة.
ولو خرج عليه عامة بغداد لربما عجز عنهم.
وقال حنبل: لما أمر المعتصم بتخلية أبي عبدالله، خلع عليه مبطنة وقميصاً وطيلساناً وقلنسوة وخفاً، فبينا نحن على باب الدار، والناس في الميدان والدروب وغيرها، وغلقت الأسواق إذ خرج أبو عبدالله على دابة من دار المعتصم في تلك الثياب، وأحمد بن أبي دؤاد عن يمينه، وإسحاق بن إبراهيم -يعني: نائب بغداد- عن يساره.
قد تحاول السلطة إثبات هيبتها بالإمعان في التضييق والإيذاء إن غرَّتها قوتها ونسيت سياستها
فلما صار في الدهليز قبل أن يخرج، قال لهم ابن أبي دؤاد: اكشفوا رأسه فكشفوه، يعني: من الطيلسان، وذهبوا يأخذون به ناحية الميدان نحو طريق الحبس.
فقال لهم إسحاق: خذوا به هاهنا يريد دجلة، فذهب به إلى الزورق، وحمل إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فأقام عنده إلى أن صليت الظهر.
وبعث إلى والدي وإلى جيراننا ومشايخ المحال، فجمعوا وأدخلوا عليه.
فقال لهم: هذا أحمد بن حنبل، إن كان فيكم من يعرفه وإلا فليعرفه.
وقال ابن سماعة -حين دخل الجماعة- لهم: هذا أحمد بن حنبل، وإن أمير المؤمنين ناظره في أمره، وقد خلى سبيله، وها هو ذا، فأخرج على فرس لإسحاق بن إبراهيم عند غروب الشمس، فصار إلى منزله، ومعه السلطان والناس، وهو منحن»(2).
ابن تيمية
ورغم وجود الضيق وحلول البلاء يلتف الناس حول بعض العلماء، فلا يُعجب ذلك بعض أطراف السلطة، فتمعن في التضييق والإيذاء، يقول ابن حجر عن ابن تيمية: «عُقد مجلس في ثالث عشر منه (أي: رمضان) بعد صلاة الجمعة، فادُّعي على ابن تيمية عند المالكي فقال: هذا عدوي، ولم يجب عن الدعوى، فكرر عليه فأصر، فحكم المالكي بحبسه، فأقيم من المجلس وحبس في برج، ثم بلغ المالكي أن الناس يترددون إليه، فقال: يجب التضييق عليه إن لم يقتل وإلا فقد ثبت كفره، فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب»(3).
والتفاف الناس حول ابن تيمية جعل السلطة تخفف من قبضتها عليه، وذلك يأتي من باب تصارع القوى والسلطات داخل النظام الواحد؛ إذ قد يتشدد الفقهاء وهم الأقران ويتلطف الأمراء، أو يكون التباين داخل فريق الأمراء أو فريق الفقهاء.. إلخ، يقول ابن حجر: «اعتقل بسجن بحارة الديلم في ثامن عشر شوال إلى سلخ صفر 709هـ، فنقل عنه أن جماعة يترددون إليه، وأنه يتكلم عليهم في نحو ما تقدم، فأمر بنقله إلى الإسكندرية، فنقل إليها في سلخ صفر، وكان سفره صحبة أمير مقدم ولم يمكن أحداً من جهته من السفر معه، وحبس ببرج شرقي، ثم توجه إليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه، فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة، وكان موضعه فسيحاً فصار الناس يدخلون إليه ويقرؤون عليه ويبحثون معه»(4).
والتفاف الناس حوله كان مصاحباً له في كل مكان، في الشام ومصر، يقول ابن حجر: «سكن القاهرة وتردد الناس إليه إلى أن توجه صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزاة في سنة 712هـ، وذلك في شوال، فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة، فكانت مدة غيبته عنها أكثر من سبع سنين، وتلقاه جمع عظيم فرحاً بمقدمه»(5).
فالتفاف الناس حول أحد العلماء في وقت محنته سلاح ذو حدين؛ إما يجعل السلطة لا تبالغ في التضييق عليه إن كانت عاقلة، أو تحاول إثبات هيبتها بالإمعان في التضييق والإيذاء إن غرَّتها قوتها ونسيت سياستها.
وفي كل الأحوال هذا الالتفاف يخيف السلطات.
وفي المقابل، قد تصنع السلطة رموزاً من علماء السلطان، وتحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تصنع حولهم هالة كي يعظمهم الناس ويكونوا طوع بنانهم، وحبل هؤلاء العلماء موصول بالسلطات، فيكون حبل الناس موصولاً بالسلطة عن طريق هؤلاء العلماء.
والعقل الجمعي للعامة فيه من الذكاء ما فيه مما يمكنهم من تمييز العلماء الأثبات الراسخين من العلماء المدعين الذين لا يثبتون على موقف، وتدور مواقفهم بدوران أصحاب القصر والسلطان، فيقولون اليوم ما قد يخالفونه غداً طالما ارتآه أهل السلطان.
فقد ينخدع هذا العقل الجمعي بعض الوقت، لكنه لا ينخدع كل الوقت، ويعرف العلماء الجديرين بحبهم وتقديمهم والأخذ عنهم والتأثر بمواقفهم وأحوالهم.
_________________________________________________
(1) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 11/258-259.
(2) المرجع السابق، 11/259-260.
(3) الدرر الكامنة، 1/171.
(4) المرجع السابق، 1/173.
(5) المرجع السابق، 1/174.