المثقفون الاستعماليون هبّوا يدافعون عن الراحلة وآرائها العدوانية واتهموا من يكشفون مواقفها بأنهم “داعشيون”!
في صفحة الوفيات بجريدة “الأهرام” المصرية (21/3/2012م) ظهر هذا النعي:
“رحلت الأحد 21 مارس
نوال السعداوي
نوال أمنا
أجمل أم رحلت في عيد الأم
فاضت علينا بالحب والكرامة والاستغناء، في قلوبنا حزن نازف لن يلتئم”.
(منى حلمي- عاطف حتاتة)
الموقِّعان على هذا النعي ابنا الكاتبة الراحلة نوال السعداوي، الأولى ابنتها من زوجها الأول أحمد حلمي، والآخر من زوجها الثالث شريف حتاتة، النعي تعبير إنساني عن حب ولدين لأمهما، وأمر طبيعي في لحظة الفقد التي تمحو ما عداها، وتجعل للحزن وجوداً يملأ القلب والوجدان!
النعي لم يستخدم اللغة الإسلامية المعروفة، ليس هناك مثلاً: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، ولا “لله ما أعطى ولله ما أخذ”، ولا “لا أراكم الله مكروهاً في عزيز لديكم”، ولا نحو ذلك، خاصة ما يتعلق بطلب المغفرة والرحمة، وهذا أمر ليس بمستغرب على العائلة التي تعيش في إطار الفكر المادي الشيوعي، فالدين عندها أفيون للشعوب، ولا مكان لله في أدبياتها إلا بالصورة السلبية، وقد اختزل الشيوعيون المصريون والعرب أخيراً الفكرة المادية الشيوعية في محاربة الله، والإسلام ورموزه وتاريخه وتراثه، ووصمه بالظلام والتخلف والعدوانية.
من حق كل إنسان أن يؤمن بما يريد، وأن يعبر عنه بالطريقة التي تعجبه، في حدود عدم فرض اعتقاده على الآخرين، خاصة إذا كانوا يمثلون الأكثرية الساحقة، وليس من حقه أن ينال من معتقداتهم أو تصوراتهم.
عقب إعلان وفاة نوال السعداوي (1931 – 2021م)، ظهر الخبر بوصفه نبأ عاجلاً مهماً على شاشات التلفزيون وموجات الإذاعة والمواقع الإلكترونية، واستضافت هذه الوسائط مراسلين وصحفيين وكتَّاباً يتناولون حياة الراحلة، من خلال الإشادة بمواقفها وكتاباتها وأحداث حياتها، وتقديمها شخصية فوق العادة، بل إن بعض القنوات التلفزيونية أعادت مقابلات قديمة أجريت معها وعبرت فيها عن آرائها تجاه الإسلام والمرأة والمجتمع وغير ذلك من قضايا، ونُقل إليَّ أن صفحات التواصل الاجتماعي ضجّت برد فعل كثيف نتيجة لهذا الاهتمام غير العادي، ووصف الراحلة بالجرأة والشجاعة والنضال والاستنارة.. وغير ذلك من مرادفات معنوية.
تسند ما يجري بالمجتمع إلى الإسلام وعلماء الدين والشريعة وتتجاهل تراكم العادات والتقاليد
مثقف استعمالي
رأى عامة الناس أن الاهتمام غير العادي ليس في محله، لأن الراحلة لم تكن منحازة لشعبها ولا دينها ولا جنسها، بل كانت ضد هؤلاء جميعاً، وذكروا في ثنايا ردودهم ما يؤكد أنها “مثقف استعمالي” خدم نفسه وخدم الحكومات المستبدة الظالمة، وخدم الغرب الاستعماري والصهيونية الغازية.
هبّ المثقفون الاستعماليون في أرجاء العالم العربي يدافعون عن الراحلة وآرائها العدوانية، واتهموا من يكشفون مواقفها بأنهم “داعشيون” وإرهابيون وظلاميون متحجرون وأعداء البشرية، بل وصل الأمر ببعضهم إلى كتابة مقالات مطولة تصفهم بأنهم قتلة! ثم حصروا المسألة في الشماتة بالموت والوكالة عن الله وإدخال الجنة والنار!
عادة، يتضامن المثقفون الاستعماليون في أرجاء البلاد العربية مع عناصرهم المنبوذة شعبياً، ويدافعون عنها دفاعاً مستميتاً عبر الوسائط الرسمية التي يهيمنون عليها، بحكم أنهم أبناء الأنظمة الاستبدادية والغرب الاستعماري، وأعداء الإسلام وخصومه، وقد رأوا نوال السعداوي تتعرض لرفض شعبي واسع النطاق عبر وسائط التواصل الاجتماعي؛ ما جعلهم يبذلون كثيراً من الأكاذيب، مع إسباغ العديد من الصفات والخلال عليها وهي لا تستحقها بحال.. فمن هي نوال السعداوي؟
وُلِدت نوال السيد السعداوي في «كفر طحلة» بمحافظة القليوبية عام 1931م، لأسرة متوسطة الحال؛ حيث كان أبوها موظفاً بوزارة المعارف (التعليم)، وقد أدى دوراً كبيراً في حياتها، فمنه تعلَّمَتِ التمردَ على قيود المجتمع، وأن الثوابت التي لا تؤمن بها هي أصنامٌ يسهل تحطيمها(!)، أما أمها فهي سيدة ريفية بسيطة ورثَتْ عنها ابنتُها الجَلَدَ وتحمُّلَ المسؤولية كما تقول.
أتمَّتْ السعداوي دراستَها الجامعية وتخرَّجَتْ في كلية الطب عام 1955م، وكتبت في الأدب الذي تفرغت له بعد سنوات من عملها طبيبة، تزوَّجَتْ ثلاثَ مرات وأثمَرَ زواجُها بنتاً وولداً، البنت من الزواج الأول، والولد من الزواج الأخير، وقام الزوج الثالث «شريف حتاتة» -وهو شيوعي- بترجمة أعمالها إلى اللغة الإنجليزية، ومن ثم أتيح لها أن تترجم إلى لغات أخري؛ فقد كانت تعبر عن ثقافة الغرب وتصوراته بطريقة جيدة، والمفارقة أنها طلقت أزواجها الثلاثة بطريقة عاصفة سواء من قضت معه مدة قصيرة أو طويلة.
كتبَتْ السعداوي نحو 50 عملاً متنوِّعاً بين الرواية والقصة والمسرحية والسيرة الذاتية، ومنها: “مذكرات طبيبة”، “أوراقي.. حياتي” (3 أجزاء)، “مذكرات في سجن النساء”، “الزرقاء”، “سقوط الإمام”، قضايا المرأة المصرية السياسية والجنسية”، “معركة جديدة في قضية المرأة”، “الإنسان”، “اثنتا عشرة امرأة في زنزانة”، “موت الرجل الوحيد على الأرض”، “تعلمت الحب”، “توأم السلطة والجنس”، “رحلاتي في العالم”، “كانت هي الأضعف”، “لحظة صدق”، “جنات وإبليس”، “الصورة الممزقة”، “المرأة والجنس”، “امرأة عند نقطة الصفر”، “الغائب”، “المرأة والدين والأخلاق” (بالاشتراك)، “الأغنية الدائرية”، “كسر الحدود”، “الحاكم بأمر الله”، “الرواية”، “امرأتان في امرأة”، “الخيط وعين الحياة”، “الأنثى هي الأصل”، “الحب في زمن النفط”، “الإله يقدم استقالته”..
تجاوزت في حق الإسلام كثيراً وأيَّدها أنصارها من الماركسيين وعدُّوها حجة بالحكم على الدين
الشريعة والدستور
معظم كتبها تدور حول قضية المرأة المظلومة التي يغتصبها الرجل المتوحش، في بيت العمدة أو شيخ البلد أو مخدومها الثري، كما يهدر المجتمع آدميتها بإخضاعها للختان، وارتداء الحجاب، وتزويجها عنوة، ويجبرها على الطاعة، ويضعها في درجة دنيا اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.. إنها تسند ما يجري في المجتمع إلى الإسلام وعلماء الدين والشريعة الإسلامية، وتتجاهل تراكم العادات والتقاليد التي قد تكون لا علاقة لها بالإسلام أصلاً.
تحكي في سيرتها الذاتية عن مرحلة من عمرها حين صارت شابة، فتقول: “أصبحت في الأوراق الرسمية مواطنة في سن الرشد، أحظى بحقوق الإنسان فيما عدا الحقوق التي منحها لله للرجال دون النِّساء، كان الدستور المصري ينص على المساواة بين النَّاس أمام القانون، لكن شريعة الله تنص على أن الرِّجَال أعلى درجة من النِّساء، كان التناقض واضحاً بين الدستور والشريعة، لم أكن أرى هذا التناقض وأنا في الحادية والعشرين من عمري، الإيمان المطلق الأعمى يجعلني لا أرى التناقضات الواضحة للعيان” (أوراقي.. حياتي، ج3، ط هنداوي، القاهرة، ص 157).
هذا هو أبسط ما قالته عن الشريعة وأخفه، والسؤال هو: هل لا بد أن تتطابق الشريعة مع الدستور الذي وضعه بشر قاصر الفكر والسلوك، لم يدرس الشريعة ولا دراية له بمقاصدها؟ بل قد يكون عدواً لها متحاملاً عليها؟ وما معنى المساواة في سياقاتها المختلفة؟ وهل يتساوى مواطن أو مواطنة مع القائد أو الرئيس أو الحاكم؟ وهل تعطى قيادة البيت أو المدرسة أو المصنع أو المزرعة أو الجيش أو الدولة لأي فرد ليس مؤهلاً للقيادة؟
طالبت بمساواة المرأة بالرجل في الميراث وإلغاء النصوص الواردة بالقرآن بهذا الخصوص
نسخة مشوهة
لقد تجاوزت نوال في حق الإسلام كثيراً، وأيدها أنصارها من الماركسيين وأشباههم، وعدوها حجة في الحكم على الإسلام والإيمان، وهي التي لم تقرأ شيئاً في الإسلام ولم تفقه شريعته، بقدر ما استلبتها “سيمون دي بوفوار” واستولت على عقلها وتفكيرها، وجعلت منها نسخة مشوهة للفكر الغربي المادي، وتأمل أثر هذا الاستيلاء وذلك الاستلاب فيما ورد في كتاب أمل الجمل “نوال السعداوي وشريف حتاتة وتجربة حياة”، دار المحروسة، القاهرة، 2014م، عن علاقة الزوجين التي بدت على قدر وافر من التفاهم والقبول بما قد يأتي به أحدهما من تصرفات تجاه الآخر مهما بدت للمجتمع غير مقبولة؛ فقد أجابت السعداوي عن سؤال لأمل حول تعدد العلاقات بأنها تقبل أن تكون لزوجها حبيبة أو عشيقة، غير أن الكذب وحده هو ما قد يهدم العلاقة، وأجاب حتاتة على فرضية أن تحب نوال شخصاً آخر وترتبط معه بعلاقة جنسية بأنه ليس لديه ما يمنع(!)، إذ تتسع علاقتهما لما هو أكبر من ذلك! (إنهما يستعيدان حياة سارتر، ورفيقته سيمون دي بوفوار بصورة مطابقة!)، ولكنها تنسف كل ذلك حينما علمت أن “شريف” أحب تلميذته وتزوجها، فلم تترك له فضيلة واحدة واتهمته بالكذب والخيانة والسرقة.
يمكننا أن نذكر أبرز مواقفها الشاذة تجاه الإسلام والمسلمين في النقاط التالية:
أولاً: تتساءل: لماذا لا يكون الإله أنثى؟ ولماذا لا نقول: قل هي الله أحد؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ثانياً: ترى أن القرآن الكريم منتج تاريخي، وليس وحياً، وهو ما يردده الماركسيون العرب.
ثالثاً: ترى أن الحج وثنية، وأن الرجال في مصر يستولون على أموال النساء ليقبّلوا الحجر الأسود، وهو وثن بمفهومها الشيوعي.
رابعاً: الحجاب لا أصل له في الدين، وهو يحجب العقل قبل أن يحجب الرأس.
خامساً: تطالب بمساواة المرأة بالرجل في الميراث وإلغاء النصوص الواردة في القرآن بهذا الخصوص.
سادساً: الزواج عبودية ودعارة مقننة مقابل المهر، والمثلية حق إنساني!
سابعاً: ترفض تعدد الزوجات، وترى أن من حق المرأة أن تعدد الأزواج.
ثامناً: فصل الدين عن الدولة؛ لأن الدين إذا دخل في السياسة فلن يكون هناك نقاش وسيكون القتل مصير من يختلف معك.
(هذه الآراء مبثوثة في سيرتها الذاتية بأجزائها الثلاثة، فضلاً عن كتبها الأخرى غير السردية، ومقابلاتها الصحفية والإذاعية والتلفزيونية).
ثقافتها كانت محدودة فهي لا تفهم التشريع الإسلامي ولا تستوعب الثقافة الغربية إلا في شكلها المادي
ثياب المبشرين
بالطبع هي تقوم بدور المثقف الاستعمالي بامتياز، وتقدم خدمة جليلة للغرب والاستبداد، حين تلبس ثياب المبشرين بثقافة تنسف الإسلام من داخله مدفوعة بعقدة قديمة بسبب الختان، الذي توارثه الناس في مصر بل في أفريقيا على مدى عشرات القرون والأجيال، ولم ينشئه الإسلام أو يفرضه كما تدعي في كتاباتها.
لقد أشعلت حرباً عالمية ضد الذكورية بصفة عامة، وزعمت أنها حاربت من أجل حريتها وكرامتها، وأن ذلك كلفها العزل من وظيفتها، وإدراج اسمها في قائمة الاغتيالات؛ ما اضطرها إلى البحث عن الحرية والأمان في مكانٍ آخَر غير بلدها، وكانت قضيةُ المرأة هي شاغلها الأكبر، فظلَّتْ تكتب عنها وإليها.
والمؤسف أنها تقع في الكذب الذي تدعي أنها ترفضه، وتقيم العلاقات على رفضه؛ فلم تبحث عن حرية المرأة المظلومة، لكنها بحثت عن حريتها هي وشهرتها هي باستثمارها الاعتقال لأسابيع في أواخر أيام السادات مع مئات المسلمين، ولم تخف شماتتها في مقتله (أوراقي.. حياتي، ص 174)، وقد صور المثقفون الاستعماليون من أنصارها كذباً أمر اعتقالها كأنها وحدها التي اعتقلت بناء على رغبة التكفيريين الهائجين (فاطمة ناعوت، المصري اليوم، 25/3/2021م).
وتقع نوال في الكذب حين تكرر في أكثر من موضع بسيرتها الذاتية أنها كانت على قائمة الاغتيالات التي وضعها الإرهابيون، وأن الحكومة وضعت لها حراسة دائمة، ثم تدعي أن أجهزة الأمن في الوقت نفسه كانت تراقبها بسبب معارضتها للنظام؛ فكيف يستقيم للنظام أن يحرسها خوفاً عليها، ويراقبها خوفاً منها في آن واحد؟ أليس ذاك استخفافاً بالعقول؟
المشكل الأكبر أنها تدعي مع أنصارها الكذبة الدفاع عن حقوق الإنسان، وفي مقابلة عام 2017م مع تلفزيون “بي بي سي”، سألتها المذيعة عن حقوق الإنسان، فنهرتها بشدة وقالت: “تريدين أن أهاجم الـ…”، وذكرت اسم حاكم عربي!
بذلت السعداوي جهداً كبيراً لتشويه ثورة يناير، وميدان التحرير، أمام الإعلام الدولي، ووصل الأمر إلى حد اختراعها حكاية أن وزيرة الخارجية الأمريكية “هيلاري كلينتون” كانت توزع الدولارات على المتظاهرين لكي ينتخبوا الإخوان المسلمين، وقالت بأنها رأت ذلك بعينيها؟!
إنها لم تنطق بكلمة من أجل عشرات الآلاف المعتقلين المسلمين، ولا مئات النساء اللاتي انتهكت أعراضهن وكرامتهن، ولا غضبت من أجل النساء المرضعات وأطفالهن الرضع بين الجدران المظلمة، إن نضالها الحقيقي كان محصوراً بالهجوم على الإسلام وتشريعاته، وبالطبع لم تدافع عن امرأة الكنيسة المصرية المظلومة.
المرأة الشرسة
أخطر ما في الأمر أن ثقافتها كانت قاصرة ومحدودة، فهي لا تفهم التشريع الإسلامي، ولا تستوعب الثقافة الغربية إلا في شكلها المادي، وماذا تنتظر من سيدة تتحدث عن “سارتر” بوصفه صاحب “فلسفة وجودية اشتراكية ليبرالية”، وتتكلم عن “فرويد” بوصفه زعيم “الطب النفسي الحديث”، ولم تدرك أن هناك بين النساء اللائي وصلن إلى السلطة في الغرب -خاصة في الشرطة- من هي أكثر شراسة من الرجال، ونسيت أن بعض العقائد تحمل المرأة الخطيئة منذ بداية الخلق! ثم تصف مع أنصارها الإسلام بالظلام والمسلمين بالظلاميين، وتجاهلت أن سر الظلام هو البعد عن الإسلام وتشريعاته الفائقة؛ وهو ما أكده المؤرخ الإيطالي “برنس جيواني يوركينز” بقوله: “إن هذا الظلام الذي يخيم على حياة المسلمين إنما هو من عدم مراعاتهم لقوانين القرآن الكريم”.
لقد استسلمت نوال السعداوي للشهرة والنرجسية، ووجدت أن أسهل الطرق لتحقيقهما في الحياة هي أن تقوم بدور المثقف الاستعمالي؛ أي القفز على حائط الإسلام “الواطي”، وقد فعلت ذلك بفجاجة ووحشية للأسف الشديد!