قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
عن عليٍّ رضي اللَّهُ عنه في قولِهِ تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) قال: “عَلِّموا أَهليكُم الخَيرَ” (صحيح الترغيب).
جاء في “تحفة المودود بأحكام المولود” للإمام بن القيم -رحمه الله- قال: “قال بعض أهل العلم إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده فانه كما أن للأب على ابنه حقاً فللابن على أبيه حق..”.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والأمِيرُ راعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها ووَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ” (صحيح البخاري).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له” (صحيح مسلم).
أولاً: ثوابت في تربية الأبناء
قبل الحديث عن الاستثمار الأمثل للإجازة الصيفية في تربية الأبناء لا بد أن نؤكد على مجموعة من الثوابت التي يجب على الوالدين مراعاتها لكي نستطيع تربية شخصية سوية متوازنة وليست ذاكرة لتخزين بعض الأوامر والتعليمات، ولنعلم أنه بدون مراعاة هذه الثوابت لن تؤتي جهودنا التربوية ثمارها بالقدر المطلوب:
1- تربية الأبناء علم واسع وفن ليس بالسهل، وهذا يتطلب كثرة اللجوء إلى الله تعالى، وكثرة الدعاء بالمأثور من أدعية القرآن الكريم، كما يتطلب اليقين وحسن الظن بالله تعالى أنه سبحانه سيستجيب، فلا ملل ولا تعجل، بل حكمة بالغة وصبر جميل، ومع كل ذلك أن يحقق الآباء القدوة من أنفسهم للأبناء.
قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].
جاء في (سير أعلام النبلاء) عن الفضيل قال: “اللهم إني اجتهدت أن أؤدب عليَّاً فلم أقدر على تأديبه فأدبه أنت لي” اهـ.
استجاب الله تعالى دعاء الفضيل وأصبح علي بن الفضيل بن عياض إمامًا في العلم والزهد حتى قال ابن المبارك: “خير الناس الفضيل بن عياض وخير منه ابنه علي”، وعن سفيان ابن عيينة قال: “ما رأيت أحداً أخوف من الفضيل وابنه”.
وجاء (في حلية الأولياء) عن محمد بن الحسين قال: “كان علي بن الفضيل يصلي حتى يزحف إلى فراشه، ثم يلتفت إلى أبيه فيقول: يا أبت سبقني المتعبدون” اهـ.
2- يجب ألا يعتمد الآباء على الأنماط التربوية التقليدية الجامدة التي تجعل الأبناء يشعرون بأنهم عبيد تحت وطأة سيد لا يرحم ولا يتنازل ولا يلين، فينفرون نفور الفريسة من الأسد، بل عليهم الاطلاع على كل ما هو جديد في النظريات التربوية مع الالتزام بثوابت القيم ومبادئ الأخلاق.
3- على الآباء أن يدركوا أن إشباع الجوانب النفسية والعاطفية للأبناء لا يقل أهمية عن تلبية الجوانب المادية بل تفوقها، وأن ما يفتقده الأبناء أو يحرمون منه داخل بيوتهم يبحثون عنه خارج بيوتهم! مع التأكيد على أن العطف الزائد لا يقل خطراً عن القسوة الزائدة {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}.
3- من الأهمية بمكان أن يكون هناك اتفاق في وجهة النظر التربوية بين الوالدين، وأن يحرصا على تربية الأبناء على “الحلال والحرام” من جهة الشرع، قبل تربيتهم على “الصح والخطأ” من جهة المجتمع.
4- أن يدرك الآباء أن مسؤولية تربية الأبناء تضامنية بينهما، فلكل منهما دوره الذي لا يستطيع غيره القيام به، حتى لو كان غيره هذا هم خبراء التربية، وحتى لو كانوا الأجداد.
5- على الآباء أن يُدركوا أن التربية عملية تراكمية وأن إغفال التربية في مرحلة من المراحل أو التهاون فيها يؤثر على ما بعدها.
6- مراعاة أن الانضباط السلوكي والأخلاقي لا يُورَّث، ولا يتم بمجرد التنبيه، ولكن يحتاج إلى التعهد والرعاية والقدوة العملية.
7- من الأخطاء التربوية الشائعة أن “تربية البنت أسهل من تربية الولد”، وهذا خطأ فادح فكلاهما كائن بشري له مشاعره وله احتياجاته ومتطلباته، فإذا كانت تربية الولد فيها مشقة فإن تربية البنت فيها دقة.
8- من الأهمية بمكان أن نوقن أنه ليس هناك ما هو متفق عليه في السلوك البشري، وليس بالضرورة أن الأسلوب التربوي الواحد يؤدي إلى نتائج متشابهة، فلا نقارن ولداَ بأخيه ولا بنت بزميلتها، لأن ذلك قد يؤدي إلى العناد الذي لا يصلح معه تقويم أو يزيد عملية التربية تأزماً.
9- مراعاة أن العنف في التربية قد يخمد مظاهر المشكلة لفترة لكنه لا يقضي عليها، وأن السخرية تقتل الإبداع والإيجابية وتغرس مكانهما الانهزامية والخمول السلبية.
10- ضرورة وجود قنوات اتصال ومتابعة بين الوالدين وبين وسائل التربية الأخرى التي يلتحق بها أو يتردد عليها الأبناء.
11- تقنين وترشيد وضبط التعامل مع وسائل الإعلام وغيرها من وسائل التكنولوجيا الحديثة، فهناك من يراهنون على هدم الأسرة والقضاء على الجيل من خلال نشر الثقافات الهابطة والقيم الهدامة.
12- الثناء الحسن على الأبناء وتحفيزهم، وتنمية مواهبهم وصقل مهاراتهم، كل ذلك يفجر الطاقات لديهم ويغرس فيهم الثقة بالنفس والقدرة على التعايش السليم والبنَّاء مع المواقف الحياتية المختلفة.
13- المعايشة الدائمة والمستمرة للأبناء ومشاركتهم مناسباتهم ومناقشتهم في طموحاتهم وتطلعاتهم، كل ذلك يساعد الآباء على التعرف على أسلوب التفكير لديهم، والاكتشاف المبكر للجوانب الإيجابية والسلبية لديهم، والقيام برعاية وصقل الإيجابيات وتلاشي وعلاج السلبيات.
14- حسن الظن بالله تعالى واليقين بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] . ولنوقن أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
واليقين كذلك بأن بذل الجهد في تربية الأبناء مطلوب والأخذ بالأسباب واجب شرعي وأن المرء يثاب على كل جهد يبذله في هذا الجانب أيما ثواب! قال ابن القيم رحمه الله: “إنّ من الذنوب مالا يكفّره إلا الهمّ بالأولاد”.
إن كل ما سبق من ثوابت ما هي إلا نبذات مختصرة ورؤوس أقلام للبداية من عندها والبناء عليها، فبها وبغيرها يقوَّم السلوك وتستقيم الأحوال بإذن الله تعالى طالما توفر الإخلاص وحُسن التوجه.
ثانياً: النقاط الأساسية لوضع خطة تربوية للأبناء في الإجازة الصيفية:
ما إن تقترب الإجازة الصيفية حتى ينتاب الآباء شعور بالقلق من فترة الإجازة وكيف سيقضيها الأبناء في ظل عالم الفضاء الإلكتروني وعالم السماوات المفتوحة وغيرهما من وسائل التكنولوجيا التي يجهل معظم الآباء التعامل معها.
إن الآباء يرون أنهم قد تربوا في مجتمع (رواقي) يحث على الفضائل ويشجع عليها وينهى عن الرذائل ويحذر منها، كما يرون أن المجتمع الآن قد أصبح (أبيقورياً) يتحلل من كل فضيلة ويحث على كل منكر ورذيلة، وهذا ما يزيد قلق الآباء على أبنائهم.
حقيقة، إن مجرد شعور الآباء بالقلق أمر صِحي، وقاعدة يمكن البناء عليها للتفكير في كيفية استثمار فترة الإجازة فيما هو مُجدٍ ومُفيد بعيداً عن الوسائل التي لو أسيء استخدامها فإنها تشتت الذهن، وتدمر الأخلاق، وتصيب بالأمراض النفسية والعصبية التي قد يترتب عليها الانتحار، كما سمعنا ورأينا مئات الحالات من حولنا.
إن من حق الآباء أن يشعروا بالقلق على أبنائهم وأن يجعلوا تربيتهم وحسن تعهدهم ومتابعتهم شغلهم الشاغل لأن الآباء هم الذين سيجنون ثمار ذلك في الدنيا والآخرة .
ولكي نضع خطة تربوية للأبناء في الإجازة الصيفية لا بد من اتباع ما يلي:
1- التمهيد وغرس القناعة بأهمية الوقت وأن “الوقت هو الحياة” وأن “من علامات المقت إضاعة الوقت”.
2- تحديد الأهداف التربوية التي نريد أن نغرسها في الأبناء (إيمانياً، وأخلاقياً، ومهارياً، واجتماعياً) وتحديد الأسلوب المناسب لكل مرحلة سنية، مع توفير وتسهيل المتطلبات لذلك، ومع الوضع في الاعتبار أن الغرض من الخطة هو أن ننقل كل فرد إلى مستوى أعلى من مستواه وليس أن يكون الجميع في نفس المستوى.
3- توضيح أن “كلمة خطة” لا تعني أننا سننتقل من فصول العام الدراسي وتبعاته إلى فصول تربوية لها تبعاتها هي الأخرى ولكن لكون المسلم منضبطا ومنظما فلا بد أن يخطط لكل صغيرة وكبيرة في حياته.
4- توضيح أن مكونات الخطة ستكون بسيطة وأننا نمارس معظمها على مسار حياتنا ولكننا نريد أن نصقلها وننميها ونجعلها مرتبة ومنظمة وهادفة كما نجعل حبات الخرز المتناثرة في خيط واحد.
5- التأكيد على معنى الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: “أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ” (صحيح الجامع).
6- مناقشة كل ابن من الأبناء فيما لديه من مواهب وهوايات وإمكانيات ووضع تصور لصقلها وتنميتها واكتساب ما هو جديد وفق ميوله وإمكانياته، فهذا يلتحق بنادٍ رياضي أو صالة ألعاب رياضية، وذاك يشترك في دورة تنمية مهارات الحاسب الآلي أو اللغات الأجنبية، وآخر يشترك في أحد نوادي القراءة أو إحدى المكتبات، وهذه تنمي مهارة الطهي أو الأعمال اليدوية أو الرسم من خلال دورة (أون لاين)، وتلك تمارس التصوير بأسسه وضوابطه، وأخرى ستلتحق بالكتاب الصيفي… الخ.
7- الاتفاق على مادة تربوية موحدة لكل أفراد الأسرة تشمل (القرآن، الحديث، السيرة، العقائد، السلوكيات) على أن تكون بسيطة وهادفة، ومن الممكن تكليف كل فرد بفقرة من هذه الفقرات بحيث لا تزيد الفقرة عن 10 دقائق.
8- الاتفاق على ضوابط محددة يتم تطبيقها على الجميع مثل (وقت النوم، وقت الاستيقاظ، عدد ساعات مشاهدة وسائل الإعلام، عدد ساعات استخدام وسائل التكنولوجيا، التجمع على الطعام … الخ).
9- الاتفاق على (مكان ومدة الرحلة الصيفية للأسرة، متوسط عدد مرات الفسح والزيارات في الشهر… الخ).
10- عدم إهمال التقييم الأسبوعي لما تم الاتفاق عليه على أن يكون هناك تحفيز للمجتهد مثل اختيار مكان الفسحة الأسبوعية أو ما تتفق عليه الأسرة في هذا الشأن. وكذلك يجب الاتفاق على عمل حفل أسري بمناسبة انتهاء الإجازة الصيفية تقدم فيه الجوائز والهدايا، والتوصية بحسن الاستعداد للعام الدراسي الجديد.
تلك عشرة كاملة يمكن الاسترشاد بها وتطويعها والبناء عليها لضمان الاستثمار الأمثل للإجازة الصيفية بتوفيق من الله ومنة، مع مُراعاة الفروق الفردية بين الأبناء، وكذلك مراعاة ضوابط الشرع والأعراف الاجتماعية الصحيحة.
وأخيراً أقول:
إن من النعيم المُعجَّل أن يكون للمرء زوجة صالحة تعينه على القيام بواجباته، وأن يُصلِّي خلف ولده، وأن تقر عينه بصلاح بناته وحيائهن وعفتهن.
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}.
—–
* المصدر: بصائر تربوية.