عندما أعلنت الولايات المتحدة انسحابها العسكري من أفغانستان في مايو/أيار، ولم تضيع حركة طالبان الوقت وبدأت شن هجوم لاستعادة البلاد، فأعقب ذلك موجة من التحذيرات من أن يتسبب الوضع الجديد في انهيار الحكومة الأفغانية وتدفق موجة نزوح جماعي للسكان لكن ذلك لم يثن الرئيس جو بايدن عن المضي في خطته لإكمال الانسحاب بحلول 11 سبتمبر/أيلول، بعد 20 عامًا من الهجمات على مركز التجارة العالمي في نيويورك.
هذا ما يراه الكاتب الصحفي سبنسر بوكات ليندل المحرر بصحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) الأميركية في مقال يتناول تراجع اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بالتدخل العسكري خلال العقدين الأخيرين، ويورد آراء كتاب ومفكرين بارزين بهذا الشأن.
ويشير ليندل إلى أن بايدن قال خلال الشهر الجاري، في معرض حديثه عن قرار الانسحاب من أفغانستان، “إننا لم نذهب إلى أفغانستان لبناء دولة، ومن حق الشعب الأفغاني وحده أن يقرر مستقبله وكيف يريد أن يدير بلاده، وهذه مسؤوليته”.
ويرى ليندل أن تصريح بايدن يبعث رسالة مختلفة تمامًا عن تلك التي سادت في مطلع القرن الـ21، عندما أعلن الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أن “إنهاء الاستبداد في عالمنا قد أصبح نداء عصرنا”.
“القرن الأميركي”
ويوضح المقال أن الولايات المتحدة لم تكن ترى نفسها دائمًا أنها “شرطي العالم”، وعندما وسّعت نفوذها في نصف الكرة الغربي في القرن الـ19 لم تظهر كقوة عسكرية عظمى عالمية حتى الحرب العالمية الثانية.
واستشهد بما ورد في مقال للكاتب الصحفي دانيال إمروار بصحيفة “نيويوركر” (The New Yorker) العام الماضي إذ أوضح أن “سقوط فرنسا في عام 1940 أقنع قادة الولايات المتحدة بضرورة الدخول في المعركة”.
وبيّن أن المؤلف هنري لوس ذهب إلى أبعد من ذلك عندما اقترح ما أطلق عليه “القرن الأميركي”، وهو مقترح بنظام عالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية تقوده القيم والمؤسسات والقوة العسكرية الأميركية، وقال إن “فكرة لوس كانت مثيرة للجدل في البداية لكنها بدت حتمية مع نهاية الحرب”.
ويوضح الكاتب أن مسوّغات الهيمنة العسكرية الأميركية وبسط النفوذ كانت متعلقة بتحديات المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إذ رأى قادة الولايات المتحدة الاتحاد السوفياتي وانتشار الشيوعية تهديدًا للأمن القومي.
وجاء في وثيقة تأسيسية لمجلس الأمن القومي الأميركي أنه “في عالم آخذ في الانكماش، ويواجه الآن خطر الحرب الذرية، فإن مجرد السعي للتحقق من تصميم الكرملين لا يعدّ هدفًا كافيا لأن غياب النظام في صفوف الدول أصبح أقل قبولًا، وهذه الحقيقة تفرض علينا، من أجل مصلحتنا الخاصة، مسؤولية قيادة العالم”.
تدخل عسكري إنساني!
ويقول الكاتب إن منطق “التدخل العسكري الأميركي الإنساني” اكتسب قوة في التسعينيات بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، اللحظة التي أفرزت الهيمنة الأميركية أحادية القطب على العالم.
وقد تعزز ذلك المنطق، والكلام للكاتب، بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، عندما أصبح الربط بين الأمن القومي وتعزيز الديمقراطية خارج الولايات المتحدة فكرة تتردد على ألسنة السياسيين المحافظين.
وأعلن الرئيس الأسبق جورج بوش في عام 2003، بعد غزو بلاده العراق، أن “إخفاق الديمقراطية العراقية من شأنه أن يشجع الإرهابيين في جميع أنحاء العالم، ويزيد الأخطار على الشعب الأميركي، ويقضي على آمال الملايين في المنطقة”.
ووعد بأن “الديمقراطية العراقية ستنجح وأن أخبار هذا النجاح ستوصل رسالة من دمشق إلى طهران أن الحرية يمكن أن تكون مستقبل كل أمة”.
سقوط الأقنعة
ويوضح ليندل في مقاله أن شعبية التدخل العسكري الأميركي في الخارج والهيمنة الأميركية سرعان ما تراجعت داخل الولايات المتحدة، لأسباب عدة من بينها أن مسوّغات التدخل والهيمنة لتعزيز الأمن القومي الأميركي لم تعد تلامس الوتر الحساس نفسه كما كانت من قبل إبّان أحداث 11 سبتمبر/أيلول الدامية.
ويشير بهذا الصدد إلى أن كتابا صدر عام 2019 بعنوان “أمن واضح وحاضر” (Clear and Present Safety) للمؤلفين ميكا زينكو ومايكل كوهين يرى أن “الأميركيين يعيشون الآن في عالم أكثر أمانًا وحرية من أي وقت مضى في تاريخ البشرية”.
ويبرز ليندل أن الحرب العالمية على الإرهاب والغزو الأميركي للعراق ألحقا أضرارًا جسيمة بالمسوّغ الإنساني للتدخل العسكري.
ففي مقال نُشر عام 2010 في “مجلة أبحاث الإبادة الجماعية” (The Journal of Genocide Research)، يجادل المؤرخ ستيفن ويرثيم بأنه بعد الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا، قلل المحافظون الجدد والليبراليون إلى حد كبير من أهمية صعوبات وقف الصراع العرقي وتجاهلوا تحديات بناء الدولة بعد الحرب، بتصوير التدخل العسكري على أنه ضرورة ملحة بغض النظر عن العواقب، وبغض النظر عن الرأي العام، الأمر الذي مهد الطريق لغزو العراق عام 2003.
ولكن بعد نحو عقدين من الزمان، يرى الصحفي الأميركي بيتر بينارت، في مقال له بصحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times)، أن من الصعب على الولايات المتحدة الحفاظ على صورتها كلاعب سياسي عالمي فريد من نوعه، إذ تشير تقارير لـ”معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة” (Watson Institute for International and Public Affairs) التابع لجامعة براون، إلى أن حروب أميركا التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، أسفرت عن مقتل أكثر من 800 ألف شخص وتشريد 37 مليونا آخرين وأنها كلفت نحو 6.4 تريليونات دولار.
مؤشرات
وفي معرض المؤشرات التي ساقها على تراجع رغبة الولايات المتحدة في أداء دور شرطي العالم والاستمرار في نهج التدخل العسكري الخارجي، يلفت ليندل الانتباه إلى أن بايدن رفض الأسبوع الماضي طلبًا توجه به رئيس وزراء هاييتي بالإنابة للحصول على دعم عسكري أميركي بعد اغتيال رئيس هاييتي، جوفينيل مويس.
ويقول الكاتب إن بعض المحللين السياسيين رأوا في القرار مؤشرا آخر على تقلص الهيمنة الأميركية.
ويشير إلى أن ماكس بوت، المحلل السياسي المختص في شؤون الأمن القومي بصحيفة “واشنطن بوست” (Washington Post) الأميركية، علق على الحدث في مقال له بأن “شرطي العالم قد أصبح خارج الخدمة رسميًّا”.
ورأى بوت في مقاله المذكور آنفا أن الولايات المتحدة فقدت شهيتها لبناء الديمقراطيات خارج حدودها بعد إخفاقها الذريع في كل من العراق وأفغانستان.