الآن وبعد أن تم إعادة أسر الأبطال الستة، أبطال نفق الحرية، بعد أن سطروا بمداد عرقهم أنشودة الحرية، ولطخوا بالخيبة والصغار أسطورة منظومة الأمن الصهيوني، وفضحوا تواطؤ كلاب الأثر من أبناء جلدتنا، وبعد أن تصدرت أخبارهم الفضاء الإلكتروني على مدى أيام عدة.. يحق لنا أن نتلمس مما جرى دروساً وفوائد عديدة، لتكون لنا نبراساً في طريق التحرير، الذي بتنا نراه قريباً، وإنها لدروس من عمق مدلولاتها وعظيم نفعها يصح لنا أن نسميها إشراقات.
ومع الإشراقة الأولى: الجهاد يوحدنا والاستسلام يفرقنا:
لقد أثبت هذه الحادثة بما لا يدع مجالاً للشك بأن منهج المقاومة يعبر عن ضمير الشعب الفلسطيني، بل عن ضمير الأمة بأسرها، فلم ينظر أحد إلى الانتماء الحزبي لهؤلاء الأبطال، بل نظروا إلى ما مثّله عملهم البطولي من صفعة في وجه عدو متغطرس لا يفهم إلا لغة القوة، وهي بالضرورة صفعة في وجه دعاة السلام -داخل فلسطين وخارجها- مع عدو أبعد ما يكون عن السلام، مما يفقد السلام معناه ويجرده من جميع مضامينه، ليقلبه إلى خضوع واستسلام.
لم ينظر أحد إلى الانتماء الحزبي لهؤلاء الأبطال بل نظروا إلى عملهم البطولي وصفعتهم في وجه عدو متغطرس لا يفهم إلا لغة القوة
لقد لهجت ألسنة الأحرار لأبطالنا بالثناء، وارتفعت أيديهم بالدعاء، وذرفت دموع الفرح تارة، ودموع الحزن تارة أخرى، إنه الشعور الشعبي العام العفوي الصادق، المؤشر الحقيقي على صواب العمل، لم يحتَج أصحابه لكثير تأمل وتفكير؛ فكل عمل جهادي لاسترجاع الحقوق السليبة، وكل عمل يغيظ العدو، هو عمل مبارك مشروع، وكل معترض عليه سيدخل حتماً في دائرة المتخاذلين والمتآمرين.
إن طريق المقاومة والجهاد هو الطريق الوحيد الموصل لاسترجاع الحقوق، ومن سماته أنه طريق محفوف بالمخاطر والمكروهات، ولا عجب فقد “حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات”، وإن المستمسكين فيه الثابتين عليه هم رموز الأمة الحقيقيون، هم ملح الأرض، وورثة المجد، على آثار المصلحين سائرون، {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}، إنهم يعبرون عن ضمائر الشعوب، فاحتفى الناس بهم على طول الأمة وعرضها، وعبروا عن ذلك بالتغريد تارة، وبالفن تارة، بالكلمة والمقال، وبالخطبة والاعتصام، وإن المتتبع لانعكاس الحدث في الفضاء الإلكتروني ليجد مئات آلاف المشاركات الممجدة لصنيعهم، المبشرة بصحة منهجهم المقاوم، وإنه لشرف لا يناله إلا المجاهدون.
والإشراقة الثانية تنير لنا قيمة الحرية، قال أمير الشعراء:
وللحرية الحمراء باب *** بكل يدٍّ مضرّجة يُدق
لذة الحرية ومرارة العبودية:
ردد بعض المشفقين مقولة تعبر عن مرارة في قلوبهم وعدم وعي في عقولهم في الوقت نفسه، قالوا: لو أنهم -الأسرى- ما قاموا بفعلتهم حتى لا نكلم بهم بعد أسرهم من جديد، ولا يدرك هؤلاء المساكين أن يوم حرية لا يقدر بثمن، وأن كسر هيبة العدو مرضاة للرب مفخرة للشعب، وهذا ما عبر عنه محمد العارضة أحد الأبطال الستة حينما قال لمحاميه خالد محاجنة: إنه سعيد بجولته في أراضي بلاده المحتلة، قائلاً: إن التفاصيل البسيطة التي شاهدها عوضته عن 22 عاماً داخل المعتقل، إذ إنه تناول فاكهة الصبر لأول مرة منذ 22 عاماً من أحد البساتين في منطقة مرج ابن عامر، ونقل المحامي محاجنة تحيات الأسير العارضة للفلسطينيين ولكل المتضامنين معه في العالم، وقال: إنه كان متفاجئاً من مقدار التضامن العالمي معه شاكراً الجميع وجميع وسائل الإعلام.
إن طعم الحرية لا مثيل له، فقد خلق الإنسان حراً وينبغي أن يبقى حراً، يقول المنفلوطي: “الأمة التي ترضى بضياع حريتها واستقلالها، وتقبل أن تضع يدها في يد غاصبها، إنما هي أحط الأمم وأدناها، وأحقها بالزوال والفناء”، وما أجمل قول إيلياء أبو ماضي:
فتنته محاسن الحرية *** لا سليمى جمال سمية
هي أمنية الجميع ولكن *** أرهقته الطبيعة البشرية
وعجيب أن يخلق المرء حرا *** ثم يأبى لنفسه الحرية
ولقد قدمت الشعوب عبر التاريخ أغلى التضحيات لتعيش بحرية، بعيدة عن الوصاية الأجنبية، وإن الشرائع السماوية والوضعية جعلت استنقاذ الأسرى من الأعمال الجليلة التي لا يجوز إغفالها، فكيف بتحرير الوطن والشعب والأمة؟!
هؤلاء الأبطال قدموا درساً عصياً على النسيان وهو أن من أراد الحرية فلا بد أن يقدم التضحيات ومن رضي بالعبودية عاش ذليلاً
لقد قدم هؤلاء الأبطال لنا درساً مشرقاً عصياً على النسيان، من أراد الحرية فلا بد أن يقدم التضحيات، ومن رضي بالعبودية عاش ذليلا خانعا متضادا مع فطرته التي خلقه الله تعالى عليها، فأصبح في منزلة دون الحيوان.
أما الإشراقة الثالثة فتبصرنا بهشاشة الباطل.
العاقبة للمتقين:
رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق الهالك شارون الذي لقب ببطل بناء المستوطنات، كان من أقواله المشهورة: “يجب على اليهود العيش في وسط التجمعات العربية وحولها، يجب ألا يترك اليهود مكانًا واحدًا دون أن يتواجدوا فيه وينعموا بحرية الانتقال”، وكان يقول: “أتمنى أن أستيقظ من نومي يوماً وأرى غزة قد ابتلعها البحر”، لقد كان شارون يعتبر المستوطنات اليهودية في قطاع غزة لها مكانة وقيمة كـ”تل أبيب”، إلا أنه تحت ضغط المقاومة المسلحة في غزة اضطر لإعلان الانسحاب الأحادي من مستوطنات غزة، تلك المستوطنات التي كانت بداية إنشائها في عام 1972م، والتي تم الانسحاب منها عام 2005م.
هذا مشهد من سلسلة مشاهد تبين مدى هشاشة هذا الكيان، إنه بحق أوهن من بيت العنكبوت، وتتوالى المشاهد لنصل إلى مشهد انتزاع الأبطال الستة حريتهم من السجن الذي يعد مفخرة الكيان الصهيوني من حيث المتانة واستحالة الهروب منه حتى سموه “الخزنة الحديدية”، فإذا بهؤلاء العزل وبوسائل بدائية جداً، يحفرون في هيبة الكيان الصهيوني ثقباً لن يغلق، فصبر أهل الحق وقوة إرادتهم فضحت هشاشة الباطل المنتفش غرورا، وقد صال الأبطال وجالوا في الأراضي المحتلة عام 1948 أياماً عديدة كسروا فيها هيبة الكيان، بل استطاع بطلان منهم أن يكسروا الحواجز الأمنية الكثيفة على طول الخط الأخضر ليدخلوا الضفة الغربية وبالتحديد مدينة جنين، ولولا التنسيق الأمني ونذالة العملاء (كلاب الأثر) لما تمكن الصهاينة من إلقاء القبض عليهم.
ختاماً:
هذه إشراقات ثلاثة، أحسب أنها حركت القضية ورفعتها، فهي قضية مباركة يتبارك الحراك لها، هي إشراقات أيقظت غفلة الغافلين، وأنارت طريق السائرين، لتجعلنا من التحرير أقرب، وللرجوع إلى الله أرغب.
والله ولي التوفيق.