هل لنا أن نتخيل أن هناك عملاً صالحاً (وكل عمل صالح عبادة) اقترن بـ”الإيمان بالله” العظيم واقترن بالصلاة المفروضة ورغم ذلك لا يأخذ من المؤمنين مأخذاً يستحق به ما يستحق من الاهتمام والانتباه والمسارعة إليه، كونه مقروناً في القرآن الكريم بالتحقق واليقين بما يكون به المسلم مسلماً أو لا يكون.
إنه “إطعام الطعام” الذي يذكر في سورة “الحاقة” (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ {33} وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الحاقة)، وفي سورة “المدثر” (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42} قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ {43} وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (المدثر).
لعل مما يلفت الانتباه في الثقافة الإسلامية أن موضوع إطعام الطعام يذكر هكذا في النص القرآني “طعام.. نطعم.. ونطعمكم..”، لتمييزه عن باقي وجوه إنفاق المال، سواء كان فريضة (زكاة)، أو نافلة (صدقات).
والحقيقة أن الوعي بمسألة العطاء والإنفاق في نطاق العمل الصالح يجعلهما في درجة عالية جداً من درجات السعي للآخرة، ونعلم عن الرسول الكريم قوله: “ما آمن بِي من بات شبعان وجاره جائع”، وحين سئل: أي الإسلام خير؟ قال: “تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف”، قارن ذلك بحالة الحدة والتحفز في معاملات الناس ببعضهم هذه الأيام! وحين سئل صلى الله عليه وسلم أيضاً: أي شيء يوجب الجنة؟! قال: “حسن الكلام وبذل الطعام”.
وربط صلى الله عليه وسلم بين الإنفاق والإطعام، وبين تحقق السلامة والعافية والستر في الدنيا، والحديث الشريف صريح وواضح عن العلاقة بين الصدقة والشفاء والعافية، ويقولون في الأمثال المصرية الحكيمة: “اللقمة تمنع النقمة”؛ أي رغيف الخبز (اللقمة) الذي نتصدق به قد يحول بيننا وبين كارثة (النقمة) كانت على وشك الحدوث.
هذه هي ثقافتنا الأخلاقية والسلوكية في الحياة اليومية ببساطة ووضوح، وهي ثقافة موصولة بأعمق ما فينا وأغلى ما فينا وأجمل ما فينا؛ ديننا وإيماننا وحبنا لله تعالى ورغبة فيما عنده، ولكم أن تتخيلوا تماسك وصلابة وحب ووحدة مجتمع يتنفس هذه الأخلاق مع أكسجين الهواء كل يوم بل كل ساعة.
يحكون عن صاحب محل بقالة أنه كان يضع صباح كل يوم خارج المحل كرتونة كبيرة بها أكياس خبز وكتب فوقها “هذا الخبز ليس للبيع.. إذا كنت بحاجة إليه خذه”، المدهش أن من أخذوا -كما يقولون- لم يكونوا من المحتاجين والفقراء فقط، ولكن أيضاً من كبار السن الذين لا تكفيهم معاشاتهم للوصول إلى آخر الشهر، وحتى الآن لم يستغل أحد هذا الموقف وينهب ويجري بدون حاجة إلى ما أخذ، يقولون: إن المبادرة في حد ذاتها رائعة، لكن الأروع منها هو تفاعل الناس معها بكل هذا الرقي والاحترام.
طبعاً سيكون هناك بعض الخبثاء وقطاع الطرق إلى الخير الذين سيقولون كلاماً أكثر خبثاً مثل: وهل تضمن أن يتم ذلك بشكل صحيح؟ وماذا عمن سيستغلون الموقف؟ وسيثيرون فقاقيع خيبتهم على جمال الفكرة مشككين في نزاهة كل الأطراف، فلا أحد رقيب على أحد، صحيح لن نستطيع معرفة من يحتاج ومن لا يحتاج، والدنيا دائماً فيها الطيبون والخبثاء من أيام سيدنا آدم وإلى آخر آدمي سيمشي على الأرض، سيكون هناك دائماً صادقون ومحتالون، لكن هذا لن يمنعنا من فعل الخير، ونية المؤمن خير من عمله كما في الحديث، كما أن انتشار الفكرة واستمرارها سيتكفل بحسن تطبيقها.
يقول الكاتب فهمي هويدي، في مقال له بـ”الشروق” (5/ 12/ 2015): ثقافتنا اعتبرت العطاء من أركان الإيمان فضلاً عن أن لدينا خبرة تاريخية نعتز بها في هذا المجال.. ويقول: المرجعية الإسلامية ممثلة في النصوص الشرعية تعتبر المال مال الله بالأساس وأن للناس حقاً فيه (غير الزكاة)، وهذه الخلفية فتحت الباب واسعاً لمختلف صور العطاء التي كان “الوقف” أبرزها والنموذج العبقري لها.. ويقول: العالم الغربي نقل عنا هذه القيم وحولها إلى أحد مصادر قوة المجتمعات وعافيتها.. فهنري فورد، مؤسس عائلة فورد، زار مصر في أوائل القرن 19، وتفقد الأزهر والمنشآت الوقفية في مصر، وعندما عاد إلى أمريكا أسس “فورد فونديشن” على غرارها.
أمريكيون آخرون درسوا نظام الوقف في الدولة العثمانية ونقلوه إلى بلادهم حتى أصبحت أهم وأشهر الجامعات الأمريكية تدار كلها بواسطة الأوقاف (56 جامعة أمريكية تدار بالأوقاف أشهرها هارفارد، وييل).
دعونا نتذاكر ونتذكر هذه العبادة المنسية، حين تشتري سندوتش أدفع ثمن سندوتش وأتركه لمجهول، وحين تشتري كيس خبز أدفع ثمن كيس آخر وأتركه لمجهول، هناك أسر وبيوت حرفياً يمثل شراء الخبز لهم مشكلة كبيرة إذ يعتمدون عليه بشكل كبير في إطعام أبنائهم.
وإذا كانت هناك سعة وقدرة أكثر نتذكر حديث الرسول الكريم “إذا أمرقت (طبخت) فأكثر وتعهد جارك”، ونعد وجبة أخرى لمجهول ونرسل بها أولادنا إلى جائع ومحتاج، فنعلمهم التعود على فعل الخيرات وطلباً للعافية والصحة لهم، والخير عادة كما يقال، وأيضاً سنطفئ نار الشح والبخل هنا، ونار الحقد والحسد هناك، ونسعد أنفسنا برحمات الله ونسعد البائسين لوجه الله تعالى؛ (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) (الإنسان: 9).