حتى قبل جائحة كورونا وتفشيها في مختلف بقاع الأرض، واجهت معظم – إن لم يكن جميع مجتمعات المعمورة – أزمة حادة في قطاع الإسكان ومدى قدرة المواطنين على تحمل تكاليف السكن أو شراء منزل.
جاءت الجائحة وزاد الأمر سوءا، بعد أن تخلف ملايين الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم أو تراجعت مداخيلهم المالية عن دفع الإيجار أو الأقساط الشهرية للرهن العقاري، وتدخلت الحكومات إدراكا منها لخطورة الوضع، فحظرت الإخلاء نتيجة التخلف عن السداد، وقدمت بعضها ما عرف بمساعدات الإيجار الطارئة أو تأخير دفع أقساط الرهن العقاري لبعض الوقت.
الآن وبعد أن بدأت الحياة تعود إلى سيرتها الأولى تدريجيا، يبدو العالم وكأنه على أعتاب أزمة مساكن حادة الطابع. فعالميا قفزت أسعار المساكن بأسرع وتيرة لها في أربعة عقود خلال الربع الأول من العام الجاري، وأدى النقص في المعروض والزيادة الراهنة في الطلب إلى إدراك عالمي بأن السوق العالمية ليس لديها منازل كافية.
تلك الأزمة واحدة من الأزمات النادرة التي يطالب بها حتى عتاة الاقتصاديين الرافضين للتدخل الحكومي في الشأن الاقتصادي، يطالبون الحكومات بالتدخل، لأن السوق بشكلها الراهن لا تخدم بأي حال من الأحوال الأغلبية العظمى من الأشخاص الراغبين في شراء منزل، بحيث بات واضحا للجميع أن الأمر في حاجة ماسة إلى إصلاح هيكلي.
ربما يكون جيل الألفية الخاسر الأكبر حتى الآن في معركة الحصول على مسكن، فقد تأثرت مدخرات هذا الجيل بالأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي عام 2008، ثم وباء كورونا وتداعياته على الاقتصاد الدولي، ما ترك أبناء الألفية في وضع لا يحسدون عليه فيما يتعلق بالملكية العقارية، مقارنة بالأجيال السابقة على الأقل.
ويتمثل الحل لدى البعض في إجابة بسيطة زيادة المعروض من المساكن. لكن هذا الحل ليس فقط شديد التعقيد عندما يأتي الأمر إلى التطبيق العملي والأخذ في الحسبان حجم الفجوة بين المعروض والمطلوب، بل إن بعضهم يتشكك في أن تلك الإجابة هي حل المشكلة، ملوحين بأن الحل يكمن في مكان وإجابة أخرى.
البروفيسور ديكي كيرك أستاذ التخطيط العمراني في جامعة أكسفورد يرى أن زيادة المعروض من المنازل أمر ضروري لحل المشكلة، خاصة في الدول والمناطق التي ترتفع فيها تكاليف الإسكان بسرعة، لكنه يعتقد أن المشكلة تكمن أكثر في القدرة على تحمل تكاليف السكن.
ويقول لـ””، “في عديد من الدول حتى التي تعاني مشكلة إسكان حادة، لا يوجد نقص في المساكن المؤجرة، لكن المشكلة تكمن في أن الملايين من الناس يفتقرون إلى الدخل اللازم لتحمل ما هو موجود في السوق، فمشكلة القدرة على تحمل تكاليف السكن لا تؤثر فقط في عدد قليل من المدن عالية التكاليف، إنما تنتشر في جميع أنحاء العالم، سواء المدن الأغلى التي لديها أدنى معدلات الإشغال مثل مدينة نيويورك على سبيل المثال أو الأسواق الأقل تكلفة مع معدلات الشواغر المرتفعة، مثل لاجوس في نيجيريا أو إسطنبول في تركيا أو حتى جاكرتا ونيودلهي”.
ويشير البروفيسور ديكي كيرك إلى أنه في عديد من الاقتصادات، خاصة الناشئة فإن أصغر الوحدات السكنية الأساسية في الأغلب ما تكون غير ميسورة التكلفة للأشخاص ذوي الدخل المنخفض جدا، مرجعا ذلك إلى أن تكلفة بناء وتشغيل المساكن تتجاوز ببساطة ما يمكن للمستأجرين ذوي الدخل المنخفض تحمله، حتى لو حدد أصحاب العقارات الإيجارات بالحد الأدنى المطلوب لتغطية التكاليف دون أن يسعوا لتحقيق ربح، فإن الحصول على وحدة سكنية سيظل أمرا غير ميسور بالنسبة للكثيرين من أبناء الألفية أو للأسر ذات الدخل المنخفض للغاية ما لم يتلقوا إعانات أو برامج حكومية تسمح لهم بالحصول أو امتلاك وحدة سكنية.
وبالفعل فقد أشارت دراسة أمريكية حديثة إلى أنه في الولايات المتحدة فإن الدعم الحكومي هو الحل لتغطية الفرق بين ما يستطيع هؤلاء المستأجرون تحمله والتكلفة الفعلية للسكن، وأن ذلك سيكون الحل الوحيد المتاح لما يقرب من تسعة ملايين أسرة منخفضة الدخل للحصول على وحدة سكنية.
تمتد أزمة الإسكان من الصين مرورا بأوروبا إلى الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، فضلا عن إفريقيا والاقتصادات الناشئة، وفي كل مجتمع ستجد سلة مليئة بالحلول المتباينة، ابتداء من تحديد سوق الإيجارات إلى فرض ضرائب خاصة على الأملاك والعقارات، ودعوات لاستيلاء الدولة على الوحدات الخالية من السكان، أو تحويل المكاتب الشاغرة وما أكثرها في مرحلة ما بعد كورونا إلى وحدات سكنية، ومع هذا لا يوجد حتى الآن دليل على أن أيا من تلك الحلول سهلة المنال أو دائمة أو لديها القدرة الفعلية على حل المشكلة.
في الصين على سبيل المثال بلغت تكلفة الشقة في مدينة شنجن التي تعد النظير الصيني لوادي السيليكون الأمريكي 44 مرة تقريبا ضعف متوسط الراتب، في كندا كانت أزمة الإسكان جزءا مهما من حملة رئيس الوزراء جاستن ترودو الذي تعهد بفرض حظر على المشترين الأجانب، وتعهد أيضا بحظر شراء المنازل لأغراض الاستثمار.
وفي كوريا الجنوبية تعرض الحزب الحاكم للهزيمة في الانتخابات البلدية نتيجة ارتفاع متوسط سعر الشقة في سيئول بنحو 90 في المائة منذ عام 2017 حتى الآن، أما في نيوزيلندا التي تتصف بالخفة السكانية، فإن أسعار المساكن ارتفعت 22 في المائة، بينما في هونج كونج فحدث ولا حرج، حيث احتفظت المدينة وللعام الـ11 على التوالي بلقب المدينة التي تمتلك أقل سوق للإسكان بأسعار معقولة، حيث سعر المنزل 20 ضعف دخل الأسرة السنوي.
على هذا المنوال ستجد الأوضاع في ألمانيا، إيطاليا، وجنوب إفريقيا وغيرها من الدول التي تزداد الأوضاع فيها سوءا وتعقيدا.
الخبير العقاري إف. سي فلوريد يرى أن جزءا من أزمة الإسكان يرجع إلى أنماط التمويل الإسكاني وتحويله إلى أداة استثمارية ما تسبب في زيادة المعروض من الإسكان الفاخر ونقص الإسكان ميسور التكلفة.
ويقول إنه “في الدول الرأسمالية الغنية تم تمجيد امتلاك المنازل بحسبانه هدفا نهائيا لكل فرد، وقبل الوباء كان الافتقار إلى الإسكان المتوسط يمثل مشكلة رئيسة، فقد أسهم نمو الأبراج الفخمة في جميع أنحاء العالم، بهدف جذب المستثمرين الأجانب، إلى نقص المساكن لذوي الدخل المنخفض والمتوسط في المدن”.
تختلف المعمارية لورين سميث مع وجهة النظر تلك وترى أن الأزمة الإسكانية في أغلب المجتمعات لا يمكن أن تحل من خلال حشد الموارد المحلية فقط، حيث إن هناك دائما حاجة ماسة لجذب الاستثمارات الأجنبية سواء تعلق الأمر بما تقدمه تلك الاستثمارات من تقنية حديثة أو قدرات تنظيمية غير متاحة في الأسواق المحلية أو حتى رؤوس الأموال.
وتؤكد ، أن المستثمر الأجنبي ليس مؤسسة خيرية أو اجتماعية إذ إنه يهدف إلى تحقيق الربح، ومن خلال استثماره في قطاع الإسكان في دولة ما وعبر تركيز استثماراته على الإسكان الفاخر فإنه يحرر الموارد المحلية لتتخصص في زيادة الوحدات السكنية للفئات الاجتماعية المتوسطة والدنيا، ومن ثم فإن الأزمة لا تتعلق بالمستثمر الأجنبي بقدر ارتباطها بطبيعة السياسات الحكومية التي تنظم قطاع الإسكان.
وتضيف “في الولايات المتحدة حيث ارتفعت أسعار المنازل بنحو 40 في المائة منذ عام 2000 حتى الآن، فإن الشخص الذي يعمل 40 ساعة أسبوعيا ويتقاضى الحد الأدنى من الأجور لا يمكنه تحمل تكلفة شقة بغرفتي نوم، هذا الوضع السيئ لا يعود إلى المستثمرين الأجانب، إنما إلى السياسات التي تحظر على الأحياء السكنية بناء مزيد من الوحدات السكانية الجديدة، والقواعد التي تحدد الحد الأدنى لمساحة البناء أو المتطلبات الخاصة بتضمين عدد معين من أماكن وقوف السيارات لكل مشروع يتم تطويره أو توسعته”.
من هذا المنطلق يطالب بعض الخبراء بضرورة طرح خطة عمل ذات طبيعة دولية لمعالجة المشكلة في مرحلة ما بعد الوباء، وذلك بوضع مشاريع الإسكان الجديدة في الحسبان عند بدء مشاريع بناء جديدة لا سيما في المدن، مع إيلاء مزيد من الاهتمام لرفاهية المواطنين بدلا من الرغبة في تحقيق أرباح ضخمة.
ويرى المهندس جاك راسل أستاذ السياسات التنموية في جامعة لندن أن جزء من المشكلة يمكن حله من خلال الابتكارات العلمية الحديثة وجزء آخر سيتطلب جهود اقتصادية خاصة.
ويقول، للتغلب على أزمة الإسكان على المستوى العالمي فإن التكنولوجيا لا بد أن تقوم بدور أكبر بكثير من دورها الراهن، فمن خلال إيجاد مواد بناء أرخص واستخدام أقل لمواد البناء مع الحفاظ على معايير السلامة الدولية تقل تكاليف الإنشاء، وبذلك نضمن أن قطاعا أوسع من المستهلكين سيتمتع بقدرة أكبر على الشراء، يترافق مع الجانب التكنولوجي ضرورة العمل على أكثر من محور بين القطاع الخاص والحكومات بحيث يتم التنسيق بين الجانبين لضمان تعظيم الفائدة من الموارد المالية المحدودة والمستخدمة في قطاع الإسكان.
ويضيف “العمل أيضا على إصلاح التباين الحالي بين أسعار المساكن والإيجار، والبحث عن حلول أخرى للسكن في المدن سواء عبر إعادة تخصيص العقارات الشاغرة، أو تحسين روابط النقل لزيادة مساحة الأرض حول المدن”.
باختصار لا يوجد حلول سحرية قادرة على حل أزمة الإسكان على المستوى العالمي في المدى القصير، لكن هناك بوتقة من الحلول المختلفة، على الأقل إن لم تفلح في وضع حد للأزمة فإنها يمكن أن تحول دون تفاقمها على المدى الطويل.