يحتدم النقاش في تونس هذه الأيام حول القضايا التي أثارها ويثيرها الانقلاب منذ 25 يوليو الماضي، ومنها قضية الدين والدولة وحدود تداخلهما، والمواقف المتناقضة في أغلب الأحيان للرئيس قيس سعيّد، فالرجل الذي يرفض أن تكون للدولة دين، وهو موقف سابق لسعيّد حتى قبل توليه الرئاسة على إثر انتخابات 2019، وليس من بنات أفكار المشرف على إعداد مسودة الدستور الجديد صادق بلعيد، لكن ذلك الموقف المجرّد لم يثر ردود فعل آنذاك؛ لأنه كان مجرد رأي، أما وقد أصبح شبه قرار فردود الفعل الرافضة صدرت حتى من الحزام السياسي لسعيّد، وتحديداً بما في ذلك “حركة الشعب”، فيما اعتبرها رئيس “حزب العمال” الشيوعي خدعة هدفها إرسال رسالة للغرب بأن الرئيس مستعد لممارسة الدور الذي مارسه بورقيبة، وبن علي الذي حكم 23 سنة وانتهت بثورة الحرية والكرامة التي اندلعت في ديسمبر 2010 وتوّجت بفرار بن علي في 14 يناير 2011.
ومرد التشكيك في إمكانية حذف الفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن تونس دولة مستقلة العربية لغتها والإسلام دينها، هو ما عرف من تدين ظاهري لسعيّد، علاوة على رفضه مشروع المساواة في الإرث بين الجنسين، وموقفه من الشذوذ، وما يقال عن قربه من حزب التحرير.
ورغم أن التنصيص على الإسلام دين الدولة في تونس في دستور 1959 بما يعني ذلك الشعب ومؤسساته، فالدولة ليست جماداً بل شعباً ومؤسسات، وتم التأكيد على ذلك في دستور الثورة عام 2014 بعد جدل طويل تم خلاله تغيير الكثير من الصياغات، مثل استبدال “تعاليم الإسلام” بـ”ثوابت الإسلام” بضغط داخلي وخارجي.
إلا أن البعض لم يعجبه ذلك، ويرى أن القطع مع الإسلام وإخراجه من الحياة العامة مشروعه الأساسي، ويتبنى هذا الموقف شق كبير من اليسار وبقية “الفرنكوفونيين” وجميع من يوصفون بأنهم مطية الاستعمار في تونس وطابوره الخامس.
الإسلام دينها
وتنص دساتير دول عربية وإسلامية على أن “الإسلام دين الدولة”، ويتساءل كثيرون من بينهم مفكرون كالفيلسوف أبو يعرب المرزوقي: ماذا يعني الإسلام دينها؟ هل تعني مثلاً “المشروعية الإسلامية العليا”، بمعنى ضرورة انسجام الأحكام والتشريعات والقرارات مع الشريعة الإسلامية أو تبريرها وفق مبدأ عدم التناقض مع الشريعة؟
ورغم أن الدستور التونسي وكثيراً من الدساتير في الدائرة الإسلامية ليست الإجابة بخصوصه بالإيجاب، إلا أنها تعني في الحد الأدنى في عبارة رمزية تشير إلى انتماء البلد إلى الأمة والحضارة الإسلامية؟
ويقول البعض ومن بينهم سعيّد، كما تمت الإشارة إلى ذلك آنفاً وصادق بلعيد: إن الدول لا توصف بأنها إسلامية أو مسلمة، فالإسلام وصف أو حكم يقع على الأفراد ضمن شروط محددة، فكيف تشهد الدولة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟! وكيف تقيم الصلاة وتصوم؟! وكيف تؤمن بالله واليوم الآخر؟! إن متطلبات الإسلام تتحقق باعتقاد وأفعال الأفراد وليس الجماعات أو السلطات، إذن ماذا يمكن أن تضيف أو تحدد عبارة “الإسلام دين الدولة”؟
والإشكالية التي يقع فيها أصحاب هذا التساؤل العجيب سببه تعريف الدولة، فالدولة شعب وأرض وحدود ومؤسسات، وكثير من الدول تضع شارات دينية لأعلامها وهي أعلام دول، والشعوب التي تشكل الدول لها هوية، وبالتالي فالسؤال ضرب من “السفسطة”.
والتعبير الصحيح عن “الإسلام دينها” هو أن تعني مثلاً أن الاختلاف على انسجام تشريع مع الإسلام هو مخالفة دستورية، ويجب أن يرد الاختلاف في المسألة إلى المحكمة الدستورية، لتقرر أن التشريع أو القرار منسجم أو متناقض مع الدستور، وليس مجرد عبارة رمزية تشير إلى انتماء البلد إلى الأمة والحضارة الإسلامية.
ردود الفعل
النقاش الذي دار ويدور حالياً في تونس حول إمكانية خلو الدستور الجديد من الإشارة إلى أن الإسلام دين الدولة لم يناقش ما ورد في معنى الدولة، وحدود إسلامية الدولة، أو علاقة الإسلام بالدولة، وإنما تساءل كثيرون عمّا إذا كانت تونس ستظل في “منظمة التعاون الإسلامي” لأنها تضم دولاً إسلامية، والجامعة العربية التي تضم دولاً تشير في دساتيرها على أنها دول إسلامية ومن بينها الجزائر وليبيا والمغرب!
كما تساءل كثيرون: إن كانت الدولة غير الإسلامية كما ينص دستورها (الجديد) ستحتفظ بوزارة للشؤون الدينية (كما تسمى في تونس وليس الشؤون الإسلامية)، وما إذا كانت المساجد ستبقى تحت سلطة الدولة وتتدخل في تعيين موظفيها وتصرف رواتبهم من خزينة الدولة؟
وما أن أعلن منسق الهيئة الاستشارية “من أجل جمهورية جديدة” أن مشروع الدستور الجديد، الذي تلقى سعيّد نسخة منه، أمس الإثنين، لا ينص على أن الإسلام دين الدولة، وأن ذلك جاء للتصدي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على غرار حركة النهضة، وردود الفعل لا تنقطع بين رافض لهذا الموقف الذي لم تؤيده سوى الفئة المنسلخة، بتعبير الأكاديمي الراحل محمد الطالبي.
بينما رأى فيه طرف ثالث من اليسار -ويا للمفارقة!- أن حذف التنصيص على أن الإسلام دين الدولة من شأنه تقوية حركة النهضة لا إضعافها، وعودة صيحات واإسلاماه! وأن الإسلام مستهدف في تونس وهي سرديات تلقى صدى واسعاً في الأوساط الشعبية، حسب رئيس حزب العمال اليساري حمة الهمامي.
في حين قال القيادي في حركة النهضة نور الدين البحيري لـ”المجتمع”: إن الإسلام غلاّب، وإنه لم يبدأ مع حركة النهضة، وإن جذوره ضاربة في أعماق الشعب التونسي وأرض تونس وكل أرض للإسلام، وسيرحل كل العابرين ويمكث الإسلام في الأرض.