ازدادت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ قضايا الفساد للعديد من القضاة الذين يتصدرون القضايا الكبرى في مصر، وخصوصًا الذين تم تخصيصهم لدوائر معينة تتعقب المخالفين للنظام، وتُصْدر أحكامًا قاسية عليهم، إرضاء للنظام الذي أتى بهم في هذه القضايا، لتصفية خصومه، وإبعادهم عن المشهد السياسي.
وبالتالي تحول مرفق القضاء الذي يجب أن يكون مرجعًا للعدالة، وحماية الناس من الظلم والفساد، إلى أداة سياسية في يد النظام يوجهها كيفما أراد، لتحقيق مصالحه وأغراضه.
نموذج لفساد أحد القضاة
في الفترة الأخيرة، ظهرت العديد من الوثائق التي تدين بعض القضاة بأعينهم، وتتهمهم بالفساد، منها الوثيقة التي نشرها موقع “عربي21” تدعي استيلاء المستشار محمد محمود حسام الدين، رئيس مجلس الدولة المصري، الذي انتهت ولايته في 30 يونيو 2022 لبلوغه سن التقاعد، على أرض تبلغ مساحتها نحو 21 ألف متر، وتتجاوز قيمتها 60 مليون جنيه عن طريق وضع اليد منذ عام 2008 وحتى الآن.
هذا القاضي لم يتصالح مع الدولة، ويسدد الأموال المستحقة عليه رغم الموافقة على التصالح معه، وتحصيل الأموال منه مقابل تقنين وضع يده على الأرض، وذلك طوال 15 سنة مستغلاً في ذلك نفوذه وسلطاته.
كيف عُين هذا القاضي؟
هذا المستشار عُين من قبل الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيسًا لمجلس الدولة بشكل مباشر، بموجب القرار الجمهوري رقم (464) لسنة 2019 متجاوزًا مبدأ وعُرف الأقدمية في تعيينات رؤساء الهيئات والجهات القضائية في مصر.
وتمَّ تخطي 3 أعضاء نواب لرئيس مجلس الدولة كانوا أكبر منه سنًا، حيث كان يسبقه في الأقدمية وقتها على التوالي كل من “المستشار يسري الشيخ، النائب الأول لرئيس مجلس الدولة ورئيس الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع وقتها، والمستشار حسن شلال رئيس محاكم القضاء الإداري وقتها، والمستشار يحيى خضري نوبي، رئيس إدارة التفتيش القضائي وقتها”، ويليهم رابعًا في الأقدمية وقتها المستشار محمد حسام الدين الذي وقع الاختيار عليه من قبل السيسي.
وثيقة الإدانة
وثيقة الإدانة تكشف عن قيام المستشار محمد حسام الدين بوضع يده على أرض تبلغ مساحتها 4 فدادين و23 قيراطًا (أي نحو 21 ألف متر) في منطقة “مطوبس”، التابعة لمحافظة كفر الشيخ.
وهي عبارة عن خطاب موجه من مراقب عام التنمية والتعاونيات بكفر الشيخ إلى رئيس الإدارة المركزية للملكية والتصرف التابعة للهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية بالقاهرة، بخصوص الوضع الخاص بقطعة الأرض التي يضع المستشار محمد حسام الدين يده عليها، والتي كانت تابعة للجمعية التعاونية لاستصلاح الأراضي بمطوبس بمحافظة كفر الشيخ.
هذا غيض من فيض، ونقطة في بحر الفساد الذي يغرق فيه العشرات في السلك القضائي المصري. ولا يعني ذلك بطبيعة الحال، أن هذا الوضع مُعمم على جميع القضاة، فبالرغم من ظهور هذه القضايا الفجّة لبعض القضاة الفاسدين، إلا أن هناك الآلاف من ذوي السمعة الحسنة والنزاهة الكبيرة، المتواجدين في السلك القضائي، ولكن لطبيعة الجو العام السياسي الفاسد وتجاذباته، الذي أثّر على كل مؤسسات الدولة بالسلب والتشويه، نرى مثل هذا الفساد.
العدالة الغائبة
القضاء النزيه هو الذي يقوم بتحقيق وتجسيد العدل على أرض الواقع لا في النصوص القانونية فحسب، وهذا ما هو مُتعارف عليه في البلدان التي تحترم القوانين بشكل عام، وتقدرها وتبرزها بشكل واضح من دون أي تحريف وتلاعب واستغلال لثغراتها، إذ لا محيد للمنتمين للوطن الواحد من التعرض للمساءلة القانونية والمحاسبة النزيهة، لهذا فالقاضي مهما كان حجم القوة التي يمتلكها الظالم مُلزم بأن يكون على مستوى متساو بين المظلوم والظالم، وعلى مسافة واحدة بين الضحية والجلاد، حتى لا ينتفي العدل على الأحكام أو القرارات الصادرة عنه في المحاكم.
وغياب العدل في صورته المتكاملة كممارسة واقعية وظاهرة في مصر، يقابله نهج غير مبرر للواقع الأمني الذي يتتبع كل مواطن يطالب بحقه بشكل سلمي وحضاري، وتتنامى عملية القمع عبر تطوير آلياتها باستحداث القوانين التي تمنع المواطنين من أي مظهر من مظاهر الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهذا بالذات ما يؤكد أن الخيار الأمني السلطوي مقصود لتأسيس عملية طويلة الأمد للقمع، والذي يهدف إلى منع حرية التعبير والإجهاز على الحق في التظاهر والإضراب، بقوانين استبدادية مجحفة، ووضع تشريعات تُجرم الاختلاف مع النظام السياسي السائد، أو المؤسسة الرسمية، أو النظام الحاكم.
والثابت أن ذرائع الأنظمة الفاسدة منافية ومجافية للحقيقة وإن احتكمت للقضاء الذي يخدمها في المقام الأول قبل غيرها، في حين أن المواطن المظلوم هو الذي لا حق له أمامها، لأنه في جميع الحالات لا يمكنه أن يكون سوى متفرج لا يستطيع الحديث، وإلا اتهم أنه يهين القضاء، فأصحاب السلطة في الأنظمة المستبدة هم المتحكمون في القضاء الذي يتكفل بتجميل أفعالهم وتصرفاتهم الظالمة وتزيينها، هكذا يجعلون القضاء في خدمة الظلمة حينما يكونون من المسؤولين الذين لهم السلطة والنفوذ والمال؛ إذ لا يمكن للقضاء في هذه الحالة أن يكون وسيطًا لتحقيق العدل بقدر ما يسمح للقاضي بأن يصير مجرد جلّاد للمظلوم وخادمًا للظالم.
قاضيان في النار وقاض في الجنة
يُعد العدل من القيم العليا التي تتحقق بها إنسانية الإنسان الحقة، كما أنه بمثابة القاعدة المتينة لنهوض الأوطان، ويشمل العدل جميع جوانب حياة الفرد، ولا يقتصر على جانب دون آخر، لأن وجوده يقتضي أن يعم كل المجالات الحياتية للأفراد، فبدونه لا يمكن أن تُحفظ الحقوق ولا أن ينعم المجتمع بالأمن والاستقرار، وبفقدانه لا يمكن أن تُعمق المبادئ الأخلاقية التي تُبنى بها الشخصية السوية.
ولهذا قال: النبي، صلى الله عليه وسلم، “القضاة ثلاثة: قاض في الجنة وقاضيان في النار”، لأن القضاء منصب عظيم في الإسلام، ويحتاج إلى العلم بالكتاب والسنة، ومناط ذلك العدل بين الناس وعدم ظلمهم، والأخذ على يد الظالم، حتى يرد الحق إلى أهله.
وللأسف الأنظمة السلطوية تعتمد على خيار الأمن لتمارس الظلم والجور والقهر مع مواطنيها تحت مسمى القانون الذي يوضع على مقاس مصالح هذه الأنظمة التي تُفقد شرعية ذلك القانون أخلاقيًا وإنسانيًا، وتبقى تلك الأنظمة مهزوزة حقوقيًا مهما رفعت من شعارات الديموقراطية الراقية التي يظهر زيفها في أبسط الأمور الحياتية على أرض الواقع، فقد تحارب وتحاصر وتسجن من يختلف معها، ولو في رأي موضوعي، أو موقف سياسي، لأنها تعتبر ذلك انتقاصًا من شأنها، ويتم محاسبة كل من يخالف القوانين السلطوية باستخدام القضاة وتسخيرهم لمعاقبة المخالفين.
________________
نقلاً عن “عربي بوست”.