قبل أيام من كتابة هذه السطور استوقفني بيان صدر من الأزهر حول بعض القضايا الفقهية التي تتعلق بأحكام الأسرة، وكان سبب البيان هو معركة حامية الوطيس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان قد أشعل فتيلها إعلامي معروف بأنه نادل كل الأنظمة والعصور، ولست بصدد مناقشة ما أثير هنا وهناك، ولكن أضع بين يدي القارئ الكريم ملاحظة بصفتي متخصصا في العلوم الشرعية وكنت أعمل في مؤسسة من أكبر المؤسسات الإعلامية الموجودة على الساحة وهي شبكة إسلام أون لاين، فأقول:
إن إلهاء الشعوب هو إستراتيجية يقوم بلعب دورها المقربون من الحكام لصرف أنظار الرعية عن إخفاقات الأنظمة والحكام، فعندما يطفو على الساحة حدث جلل ينقص من شعبية الحاكم ويكشف عن عواره وتقصيره فكن على يقين أن إعلام النظام سيجيِّش كتائبه لصرف الرأي العام عن الانشغال بهذا الحدث الأهم إلى الانشغال بأمر آخر أقل أهمية بل قد يشعل حربا بأمر تافه لا قيمة له في حاضر الأمة ومستقبلها. والانتقاء الفقهي كان له دور بارز في كثير من الأحيان في إشعال فتيل أزمات مفتعلة لإلهاء الرأي العام عن القضايا الحقيقية التي تحتاج الأمة إلى استفراغ كل جهد وطاقة في إيجاد حلول لها.
والانتقاء الفقهي المقصود به التنقيب في بطون كتب الفقهاء عن الآراء المعتبرة أو الآراء الشاذة، وتصديرها للرأي العام عبر وسائل الإعلام المختلفة، ليصنعوا منها مادة دسمة للجدال والنقاش، والهدف أحد أمرين:
إما تشويه الخصم السياسي الذي يرفع شعار إسلامية النظام والحكم، وإثبات فشله، من خلال النيل منه في معارك وهمية ليثبت للرأي العام أن الخصم السياسي يتبنى منهجا لا يستقيم مع ما وصل إليه الإنسان من حضارة ورقي، وأنه يريد أن يرجعنا إلى عصور التخلف والبداوة، والمسائل التي يتم التنقيب عنها غالبا وتكون مادة للنقاش هو ما يتعلق بقضايا المرأة مثل: (ختان المرأة، خدمة المرأة لبيتها وزوجها، سفر المرأة دون محرم، خروج المرأة، رئاسة المرأة للدولة، …..) والقائمة تطول. ومن القضايا أيضا التي تستخدم مادة دسمة للتشويه والإلهاء ما يتعلق بحد الردة وباب الحدود بصفة عامة.
الهدف الآخر من وراء إثارة هذه القضايا، وافتعال المعارك الوهمية عبر “السوشيال ميديا” هو إلهاء الرأي العام عن حدث أهم في حياة الأمة، وذلك من خلال إشعال فتيل معارك جانبية لصرف الأنظار عن كارثة كبرى.
ومع هذا نقول: ليس في ديننا ما نستحي منه، أو نخجل من مناقشته، بل على العكس تماما فالنقاش العلمي الهادئ يثمر بركة وإثراء علميا، ولكن النقاش العلمي لا يكون مثمرا إلا إذا كان بين أهل كل فن وتخصص، أما طرح القضايا العلمية الرصينة على الرأي العام، فلا ينتج إلا ثرثرة وغوغائية لا تثمر إلا إضاعة الوقت والجهد.
فالقضايا الطبية يناقشها الأطباء في مؤتمرات علمية، والقضايا الفقهية تثار في المجامع والمؤتمرات الفقهية وينبري لها الفقهاء والمتخصصون، لكن ما جدوى طرح القضايا الفقهية والعلمية على الرأي العام، لو لم تكن طبيبا ماذا عساه أن dضيف لقضية طبية أو مسألة هندسية، أو فقهية؟!
وإن تعجب فعجب أن تدور رحى الحرب حول بعض القضايا المتعلقة بالمرأة في نفس التوقيت الذي كان الرأي العام فيه منشغلا بشراء مؤسسة الرئاسة المصرية لطائرة رئاسية تقدر بملايين الدولارات في الوقت الذي يئن فيه الشعب من الفقر والجوع والبطالة، فضلا عن الفقر المائي الذي ينذر بكارثة لا يعلم مداها إلا الله.
الذي يجب أن يعيه القارئ الكريم هو أن الأمة لن تنهض من كبوتها ولن تنعم برخاء لو صدر إجماع فقهي على أن المرأة ليس لزاما عليها خدمة بيتها وزوجها وإرضاعها لأولادها هذا لو سلمنا جدلا أن المرأة تقوم بهذه الأعمال لأن الشرع يلزمها بذلك!!
يا سادة الانهيار الأسري وارتفاع نسب الطلاق في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ليس سببه الآراء الفقهية التي لا تروق لزيد أو عمرو، والتخلف عن ركب الحضارة ليس سببه أن المرأة ترضع طفلها دون أجر، عندما تطالب بإعفاء المرأة من خدمة زوجها وأولادها، وإعطائها الأجرة على رضاع طفلها فأنت تهينها بتجريدها من أمومتها ومن أرقى المشاعر النبيلة التي تتميز بها المرأة، البيوت ليست بحاجة لحسم هذه القضايا التي لم تكن ولن تكون سببا للخلاف بين زوجين منذ أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة، فهذه أمور فطرية يقوم بها البشر ويتدبرون أمورهم الحياتية دون وصاية من كاهن أو فقيه.