يعمل الأنبياء والمرسلون والمصلحون وبعض الفلاسفة على غرس القيم المثالية في النفوس، والسعي الحثيث على إيجادها في الواقع على قدر الطاقة والجهد.
والقيم المثالية وإن كانت معلومة مبثوثة فإن من يصل إليها هم أقل القليل من البشر.
والطوباويَّة مصدر صناعي من طوبى، والتي من معانيها الجنة، أو شجرة بالجنة([1]).
وقيل: هي «عبارة يونانيَّة الأصل مشتقَّة من U-Topos الذي يعني: المكان.
ويعتبر توماس مور (1478-1533) أوَّل من استخدم هذا التعبير في كتابه (اليوطوبيا)، وأطلقه على مدينة فاضلة خياليَّة عمادها نظم مثاليَّة تضمن لأفرادها سبل الخير والسعادة والرخاء، وسمة مجتمعها بلوغه الذروة في الحكمة والقوَّة والاستقرار.
وهي فكرة قديمة عرفت عند أفلاطون في (الجمهوريَّة) والفارابي في (آراء أهل المدينة الفاضلة)»([2]).
فالطوباوية هي البحث عن الفردوس المفقود في عالم الواقع، أو بمعنى آخر البحث عن العالم المثالي والفاضل.
والأيديولوجيا عندما اختلف المفكرون في تحديد مصطلحها، فإن تحديد علاقتها بالطوباوية يكون خاضعًا للمعنى الاصطلاحي الذي ارتآه صاحبه للأيديولوجيا.
فيمكن أن نقول: إن الثابت هو معنى الطوباوية، والمختلف فيه هو معنى الأيديولوجيا.
فالأيديولوجيا تعني المثالية عند البعض، وعندئذ تكون الأيديولوجيا والطوباوية متطابقين.
وقد عبَّر د. فرحان اليحيى في مقالة “الأيديولوجيا.. المفهوم والدلالة” عن وجهة نظره في العلاقة بين الأيديولوجيا والمثالية فقال:
“قد ترتبط الأيديولوجيا بالطوباوية، باعتبار الأخيرة تعبيرًا عن طموحات وأحلام الفئات التواقة إلى تغيير أوضاعها على المدى البعيد أو القريب، كـ: البرجوازية الأوروبية التي كانت تحلم بالحرية قبل الثورة الفرنسية، وقد نالتها بعد نجاح الثورة وانهيار الملكية.
وكذا الشعوب العربية التي تحلم بالوحدة أو اللحاق بحضارة العالم المتقدم.
وهذا يعني أن الأيديولوجيا والطوباوية مفهومان متلازمان، حتى إن مصطلحًا نُحت منهما سُمّي بـ(الأيدتوبيا).
فإذا كانت الأيديولوجيا تسعى إلى تفسير الواقع وتغييره، فإن الطوباوية تثوير لها، وهذا يعني أن لها دورًا فعالاً في الشئون الإنسانية؛ لأنها تعبِّر عما هو ناقص في الواقع، ومن هنا يمكن عدُّها عنصرًا ثانيًا من عناصر الأيديولوجيا وبُعدًا من أبعادها، وقلما تخلو عقيدة أو تيار فكري أو سياسي منها وبضمنها المثالية والمادية”.
ومضة في التاريخ
فإذا كانت الطوباوية طموحات وأحلام الباحثين عن تغيير الأوضاع إلى الأفضل والأحسن، فإنها إن تحققت فهي ومضة في التاريخ، يحن إليها الإنسان بعد أن يذوق حلاوتها؛ إذ إن النزاعات والصراعات تعمل على إفساد ما قد سعى إليه المثاليون.
قال ابن قيم الجوزية: “من قال: الأصل في الناس العدالة كلام مستدرك، بل العدالة طارئة متجددة، والأصل عدمها؛ فإن خلاف العدالة مستنده جهل الإنسان وظلمه، والإنسان خلق جهولاً ظلومًا؛ فالمؤمن يكمُل بالعلم والعدل، وهما جماع الخير، وغيره يبقى على الأصل، أي: فليس الأصل في الناس العدالة ولا الغالب”([3]).
وقد ألقى د. الأنصاري مزيدًا من الضوء على العلاقة بينهما -من وجهة نظره- فقال:
“بالرغم من صعوبة التمييز بين الأيديولوجيا واليوتوبيا، إلا أنه يمكن القول بوجه عام: كلاهما مجاله الواقع، فالأولى تتضمن جانب الفكر وجانب العمل، بمعنى أنها تتضمن مجموعة الأفكار والبرنامج الذي يترجمها إلى واقع عملي، وكلا الشقين مرتبط بالآخر، وقد تنجح الأيديولوجيا وقد تفشل.
بيد أن التجارب التاريخية تثبت أنه ما من أيديولوجية معينة قد عانقت الواقع بصورة مائة في المائة، وربما يؤول ذلك في أهم محدداته إلى الزيف المتعمد من قبل صانعيها؛ لتكريس وضع اجتماعي بعينه، لمصلحة صفوة أو نخبة أو زعامة بالذات.
أما اليوتوبيا (حلم المدينة الفاضلة)، فهي وإن كانت تنطلق من الواقع، فإنها توجه السلوك نحو عناصر لا يحتويها هذا الواقع؛ لأنها قد تنجح في نشاطها المعارض في تحويل الواقع التاريخي القائم إلى واقع يتطابق وينسجم مع مفاهيمها، حتى وإن كانت هذه المفاهيم لم تدخل، ويستحيل أن تدخل حيز التنفيذ العملي”([4]).
ويضيف: “وواقع الحال، فإن التمييز بين ما هو يوتوبي وما هو أيديولوجي صعب للغاية، فما يبدو في حالة معينة يوتوبيا أو أيديولوجيا يعتمد في المقام الأول على مرحلة ودرجة الواقع الذي يطبق عليه الفرد هذا المعيار، فيصف الناس -الذين تكون أفكارهم ومشاعرهم مرتبطة بنظام معين، ويحتلون مواقع معينة- كل الآراء التي لا يمكن تحقيقها ضمن إطار النظام الذي يعيشون به بكونه يوتوبيا مطلقة.
ومن الممكن جدًّا أن تصبح يوتوبيات اليوم واقع الغد، حيث اليوتوبيات واقع لم ينضج بعد.
أضف إلى ذلك أن الفئات المسيطرة في المجتمع، والتي تكون في اتفاق كامل مع النظام القائم هي التي تكرر ما يعتبر يوتوبيا، بينما الفئة الصاعدة هي التي تقرر ما يعتبر أيديولوجيا، ويعود ذلك بالأساس إلى أن هذه الفئة الصاعدة تعتبر في نزاع مع المواضع والأشياء كما هي كائنة.
ويعني ذلك أن الأفكار التي تسمو وتتفوق على الواقع التاريخي، وتحاول تكسير حدود النظام القائم والفكاك منه إلى ما هو أفضل هي يوتوبيا، بينما الأفكار التي تخص الواقع هي أيديولوجيا”([5]).
ورغم تفصيل الدكتور الأنصاري للعلاقة إلا أنه لم يرفع اللبس، ولم يُزل الإشكال.
وتبقى العلاقة بينهما ملتبسة، يتطابقان أحيانًا، ويتخالفان أخرى، ومرد ذلك كله إلى الزاوية التي ينظر من خلالها المفكر إلى الأيديولوجيا.
وتلك العلاقة الملتبسة لا تضر الأمرين، بل هي تُثري الأفكار، وتحاول أن تغير الواقع إلى صورة أفضل مما هو عليه.
([1]) انظر: لسان العرب، (1/563).
([2]) https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%88%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9-topanism-1883.
([3]) بدائع الفوائد، لابن القيم، 3/790.