على منبره، وقف الشيخ عز الدين القسام خطيبا وإمامًا قبل نحو مئة عام، ومنه انطلق في حشد الثوار والمقاومين، وتعبئة الجماهير بكلماته وخطبه، حتى بات المسجد يعرف باسم مسجد “القسّام”، الذي كان أول إمام له منذ قدومه من الشام إلى فلسطين عام 1924، تزامنًا مع افتتاح المسجد، وحتى استشهاده عام 1935م.
ففي مدينة حيفا المحتلة، يتربع مسجد “الاستقلال” أو كما يعرّفه البعض بمسجد “عز الدين القسّام”، كأبرز المعالم الإسلامية التي تحظى ببعد وطني؛ لارتباطه بالشيخ “القسّام” الذي كان له باع في مسيرة النضال والجهاد على أرض فلسطين.
ويقع المسجد في حي وادي الصليب في مدينة حيفا القديمة، ويعدّ واحدًا من أبرز المساجد الأربعة فيها وأكبرها، وهي: مسجد الحاج عبد الله أبو يونس، والجامع الكبير أو جامع النصر، ومسجد حيفا الصغير، ورابعهم الاستقلال.
وتزامنًا مع ذكرى مرور مائة عام على إنشاء المسجد، نظّم أهالي الحي حملة لمشروع ضخم يتضمن إعادة ترميمه بشكل كامل.
ويشمل المشروع ترميم جميع المرافق الحيوية فيه، بتكلفة قدرها 2 مليون شيكل (نحو 600 ألف يورو)، وفق إمام المسجد الشيخ أسعد قلق.
ويضيف إمام المسجد أن الترميم سيشمل تجديد شبكة الكهرباء، وهي شبكة قديمة مضى عليها أكثر من 40 عاماً دون تجديد، كذلك شبكة المياه والمُتوضأ في مصلى الرجال والنساء، وتجديد مكتبة المسجد، وسطحه وتبليطه بالكامل، واصفًا مشروع الترميم بـ “الضخم”.
ويتابع ضيفنا:”سيُعاد ترميم ودهن المئذنة والقبة، إضافة للحائط الغربي، حيث سيتم ترميمه بشكل كامل والحفاظ عليه، كذلك مدخل المسجد وحرمه الداخلي، بحيث يُحافظ على المسجد بشكل يليق به دون المساس بالمقتنيات الأثرية فيه، مثل منبر الشهيد عز الدين القسام، والكتابات الأصلية الموجودة على الجدران الداخلية، وبوابة من الخشب تفصل بين بوابتي الاستقلال”.
من جانبه، يوضح منسق مشروع الترميمات في مسجد الاستقلال كايد خطبا، أن قرار الترميم جاء نظراً لتهتك بعض مرافق المسجد، ما أثر على إمكانية الصلاة فيه، لافتاً إلى أن التخطيط لهذه الحملة بدأ منذ عام ونصف، من خلال طواقم مختصة ومهندسين.
ويشير “خطبا” أنه تم البدء الفعلي بالترميم قبل أيام، تبعه إطلاق حملة تبرعات قُطرية، “في جميع مدن وقرى فلسطين في الداخل المحتل” لجمع وإتمام تكلفة المشروع، منبهاً أن المسجد مستقل ولا يتبع لأي جهة مسؤولة داعمة.
حديث البدايات..
عن تفاصيل البدايات يحدثنا مجدداً إمام المسجد الشيخ أسعد قلق، أن “الاستقلال” أنشئ في بداية العشرينات من القرن الماضي، وفي هذا العام 2022 يمر ما يقارب 100 عام على بناء وإنشاء هذا المسجد.
وعند سؤالنا عن مكانة المسجد التاريخية، يجيب “قلق”: “اكتسب الاستقلال مكانة وشهرة، كون الخطيب الأول للمسجد منذ إنشائه هو الشيخ الشهيد عز الدين القسام، الذي صادف قدومه مهاجراً من سوريا إلى فلسطين، وتحديداً مدينة حيفا مع نهاية بناء المسجد، فتم اختياره ليكون الخطيب والإمام والمدرس في المسجد”.
ومنذ ذلك الحين أصبح للمسجد سمعة ومكانة عظيمة، فكان يحضر لصلاة الجمعة التي يؤمها الشيخ “القسام” آلاف المواطنين من أهل حيفا والقرى المحيطة بها، ليسمعوا الخطب الوطنية، منذ قدوم الشيخ لفلسطين وحتى استشهاده.
30 عاماً من الإغلاق..
لم يترك الاحتلال الإسرائيلي شجراً أو حجراً إلا عاث به فساداً، ففي النكبة الفلسطينية عام 1948 تعرضت مساجد فلسطين لانتهاكات جمّة، بعضها تم هدمه والآخر تعرض للإغلاق، والعديد حوّله الاحتلال إلى مطاعم وأماكن سياحية وقاعات للفنانين، وفق الشيخ “قلق”.
وفي ذلك الحين أُغلِق مسجد الاستقلال بالكامل كحال مساجد حيفا الأربعة، ولم يُفتح إلا بشكل جزئي في صلاة الظهر وصلوات الجمعة فقط، التي كان يحضرها عدد قليل من الناس، بعد ما يقارب الثلاثين عاماً من الإغلاق حتى أواسط السبعينيات.
يردف “قلق”:”منذ السبعينيّات، كان المسجد محوراً للنضال ضدّ عملاء عَيّنتهم سلطات الاحتلال “أمناء” على الأوقاف في حيفا”.
وفي التفاصيل، يلفت إلى أن فتح المسجد مجدداً جاء نتيجةَ إنشاء مكتب المحكمة الشرعية بحيفا في بناية المسجد، وكانت تُفتح في ساعات الصباح، وعند إغلاقها وإنهاء العمل بها يُغلق المسجد، حتى عام 1991.
وهنا “نقطة التحول” -كما أسماها إمام المسجد-، ففي عام 1991، تواجد معسكر عمل لترميم مقبرة الاستقلال الملاصقة للمسجد، تقوم عليه حينئذٍ الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح.
ويوضح “قلق” أن معسكر العمل كان يوم السبت، وهو اليوم الذي تغلق فيه المحكمة أبوابها، ومع شروع صلاة الظهر حينها، فتح العاملون في المقبرة المسجد لأداء الصلاة، ومنذ ذلك الحين يُفتح المسجد للصلوات الخمس، والجمعة والتراويح في رمضان والاعتكاف في ليلة القدر، وكل المناسبات الدينية والأيام التي تحوي شعائر إسلامية، كذلك تم ترميمه بشكل مبدئي بسيط.
ويسرد لنا الشيخ “قلق” في حديث ماتع، تفاصيل نقطة التحول الأخرى في عام 1994، والتي تمثلت برفع الأذان للمرة الأولى منذ فتحه جزئياً، خارج المسجد، وحتى اليوم يرفع الأذان في الأوقات الخمسة، ويصدح الصوت في أرجاء الحي.
مضايقات واعتداءات..
وككل شيء فلسطيني، لم تسلم الأماكن الأثرية والمقدسات من مضايقات وانتهاكات الاحتلال، حتى كان لمسجد “الاستقلال” نصيب منها، وعن ذلك يحدثنا الشيخ “قلق”: “تعرض المسجد خلال السنوات السابقة لمخططات لهدمه وتحويله إلى شارع أو مكان عام لطمس معالمه، إلا أنه بقي قائماً حتى الآن”.
ويردف: “يتعرض المسجد لمضايقات بين الفترة والأخرى واعتراضات على رفع صوت الأذان من السكان الإسرائيليين حتى اليوم، وإحدى هذه الانتهاكات الاعتداء على المقبرة المحيطة به، وإشعال النار فيها، والدخول للمسجد وإلقاء أكياس القاذورات في ساحته الداخلية”.
وفي الأعوام 1975، 1993، 1995، 2015 عُقدت صفقات لبيع مسجد ومقبرة الاستقلال لمؤسساتٍ إسرائيليّةٍ، تصدّى لها أهالي المدينة وأفشلوها، وما زال المسجد يحظى بمكانته التاريخية والأثرية الوطنية والإسلامية حتى اليوم بحسب وكالة سند.