رمضان شهر الصوم الذي يحذف من الإنسانية كلها تاريخ الشهوات نصف يوم طوال 30 يوماً كل عام، يقول أديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي (ت 1937م): «ليحل محله تاريخ النفس المطمئنة الكريمة، والقلب الودود الحنون، والعقل الراقي المتأمل للحياة، والأيدي المبسوطة بالخير والعطاء، شهر المساجد المعمورة بالذكر والشكر والعرفان ونسمات الراحة والإيمان، الشهر الذي نرى فيه دفق الحياة الحقيقي يتدفق بعذوبة بالغة بين الليل والنهار والصوم والقرآن، شهر السمو والوفاء والنبل والحب حيث خروج الإنسان من دائرة هواه ليكون عبدَ الله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً، شهر القرآن وإنزاله من السماء إلى الأرض، ليكون أقرب قرباً بين الرحمن والإنسان».
وبين القرآن وخلق الإنسان ما لا نعلمه من أسرار، إذ يكفي أن تقرأ الآيات الأولى من سورة «الرحمن»: (الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الْإِنسَانَ) (الرحمن)، ويكفينا من أفراح الروح ما تشعر به وهي تتلو وترتل القرآن بألسنتنا، وكما قالوا: «من طلب المعاني من الألفاظ تاه وهلك، إنها الروح»، والمفروض أن الإنسان في سنواته المعدودة فوق الأرض وقبل أن يصبح تحتها، عليه أن يتجنب ما استطاع كل ما يورده موارد «التيه والهلاك»، وهي للأسف كثيرة حتى عند مَنْ يطلب ما هو شريف وعزيز، وليس فقط الحقير والفاني من مظاهر الحياة، وفي الأصل سنجد أن تلاوة القرآن، مجرد تلاوته، تستر وتجبر الكثير من نقص وقصور ونقائص الإنسان، والآية الكريمة في سورة «المزمل» تقول: (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل: 20)، ماذا تكون الحالة، إذن، مع القرآن في شهر سماه الله تعالى بـ(الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة: 185)؟
ما الذي حدث وجعل التناقض الذي يعاكس كل هذه المعاني يحل كل هذا الحلول المنحل من كل ضابط يضبطه أو حتى ساخط يرفضه ويبتعد عنه؟ صحيح أن المسألة طال عليها الوقت والسنون، وأصبحت كأنها متلازمة من متلازمات الطب والمرض (سيندروم)، لكن ككل المتراكمات السقيمات المترهلات لا بد من لحظة بداية.
يقولون: إن هناك شيئين لا بد أن تفعلهما الآن وحالاً، إذا كنت تنوي جاداً وصادقاً في فعلهما؛ وهما: الصلاة، والرياضة؛ أي تأجيل لهما يعني فوراً عدم حدوثهما، والتسويف لص الحياة، كما يقولون، والشرط الإنساني الذي يتحدثون عنه في علم النفس يحتاج منا فقط إلى الخطوة الأولى، ثم يأتي قبلها ومعها وبعدها عون الله عز وجل، لكن لا بد من البدء كي يحدث ما ليس منه بُد.
والقرآن حدثنا عن شرط التغيير، كما قال لنا العلَّامة وقور العقل والأخلاق مالك بن نبي (ت 1973م)، الرجل الذي مرت من تحت قلمه كل الحكايات حول فكرة التغيير، إنها الإرادة العميقة؛ والمعنى بالغ الوضوح في إدراكه وفهمه بالآية الكريمة بسورة «الرعد»: (حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، والتعثر والقيام من طبائع الأشياء، وهما ملازمان للإنسان في شرف سعيه نحو المعالى في هذه الحياة، ويبقى الإلحاح في الطلب؛ «أطرقوا الأبواب تفتح لكم».
وقد كان إنساناً جميلاً فعلاً هذا الذي قال: «من طلب شيئاً ولم يدركه، أوشك أن يقع إلى جواره»، ستصل.. ستصل.. ومن سار على الدرب وصل، بل إنهم يقولون في جماليات هذا السلوك: «درب الوصول قد يكون أغنى من الوصول»، وهذا صحيح بالفعل؛ لأن فيه مجاهدة وسعياً وطلباً، وتلك المعاناة البهيجة في طريق الوصول.
لا أدري تاريخياً مَن المسؤول عن عقد هذه العقدة المعقودة المنفوثة بين شهر القرآن وموضوع المسلسلات والترفيه الشائه الرقيع، لكنَّ الملاحَظ أنها في تزايد مستمر ومتصاعد ومستفز في مخالفته للقيم والأخلاق العامة، فضلاً عن الدين وقيمه وتعاليمه؛ الأمر الذي يتطلب تدخلاً من الجهات المنوط بها الحفاظ على أعراف وثوابت مجتمعاتنا، خاصة علماء الدين وشيوخه الكرام؛ إذ يجب أن يكون لهم وقفة قوية مع ما يحدث من استخفاف واستهتار بهذا الشهر الكريم، وما يحمله من رسائل عظيمة للفرد في تنظيمه لحياته باحثاً لنفسه عن محيط فاضل يعيش فيه، وفي سعيه لآخرته حباً وشوقاً إلى ما عند الله تعالى.
وأيضاً للأمة كلها التي يتحد ملايينها في عمل عظيم من أعمال القلوب خصَّه الله تعالى بأنه له سبحانه وهو يجزي به، كما ورد في الحديث، فلا أحد يعلم أنك صائم إلا الله العلى الكبير، كل العبادات تُرى وتُشاهد ويخالطها ما يخالطها، إلا هذه العبادة الكريمة التي تعني أكثر ما تعني (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، و«التقوى ها هنا»، كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأشار إلى قلبه ثلاثاً.
ننتظر من علمائنا الأجلاء وشيوخنا موقفاً أقوى تجاه هؤلاء الذين يحاول قطع طريق الناس إلى ربهم في هذا الشهر العظيم.. إرادتنا أقوى من سفاهتهم في هذا الشهر العظيم.