زحفت ظاهرة التحرش بالمرأة من الشارع وأماكن العمل ومجالات الحياة اليومية إلى الشبكة العنكبوتية، بل تفوقت نسبتها في الفضاء الإلكتروني على شكلها التقليدي بصورة كبيرة؛ فإن 23% من النساء ممن يدخلن هذا الفضاء حول العالم قد أبلغن عن مضايقات تعرضن لها، وتبدأ من التحرش اللفظي إلى العنف الصريح وينضوي تحته أشكال متعددة منها: الاختراق والانتحال والتتبع وإذاعة تسريبات للضحية والابتزاز وغيرها.
ولم تسلم المرأة العربية من هذه الظاهرة التي تمثل إزعاجًا وتهديدًا كبيرين، بما في ذلك المراهقات، ومعظمهن يلجن هذا الفضاء، بل الفتيات الصغيرات اللاتي لم يتخطين الثماني سنوات! فحسب دراسة للأمم المتحدة في عام 2021، فإن 49% من مستخدمات الإنترنت العربيات لا يشعرن بعدم الأمان، ويخشين التحرش، وأن واحدة من كل خمس منهنّ ابتعدن عن الشبكة العالمية وقمن بحذف حساباتهن بعد تعرضهن لعنف إلكتروني شمل مواد جنسية أو مكالمات مزعجة أو رسائل مهينة.. إلخ.
ولا يمكن بحال منع المرأة المسلمة من ارتياد تلك الوسائل التي أتاحت لها نافذة جديدة وغير تقليدية للتعبير عن رأيها باعتبارها شريكة الرجل، ولكن يجب وضع الضوابط الكفيلة بكفّ أذى المتحرشين عنها؛ إذ إنها كما أراد الله لها: لا تتشبه بالرجال إحساسًا بالعجز والنقص، ولا تصارع الحياة كما يصارعون، بل تحافظ على عفّتها وطهارتها، وتعتز بنفسها، وتلتزم بآداب الإسلام في كل حركاتها وسكناتها.
أما المتوقع لهذه الظاهرة، وقد غزت مجتمعاتنا العربية في السنوات الأخيرة ظاهرة أخرى مؤسفة هي ما يُعرف بـ«تسليع المرأة»، أو «المرأة الرخيصة»، فهو المزيد من أرقام التحرش الإلكتروني والعنف الواقع على المرأة، والمرأة الرخيصة هي الأنثى التي تمتهن كرامتها وتبيع نفسها بثمن بخس، ولا تعبأ بكلام الله وأوامر الشرع، بعدما صارت سلعة يروّجها الإعلام كخطوة أولى للدخول إلى عالم الرذيلة، وقد افتقدت دورها كأم ومربية.
هذه الظاهرة فاشية على وسائل التواصل الاجتماعي كافة، خصوصًا «التيك توك» ومقاطع «الريلز» المستحدثة في «فيسبوك»، في صورة «فيديوهات» مبتذلة تنبئ عن مستقبل خطر إن لم تُعالج على المستويين الرسمي والشعبي، إن البحث عن الشهرة والتربح، في غياب الرقيب، أغرى نساء كثيرات بإظهار مفاتنهنّ صراحة للمتابعين، والحديث بلسان المنحرفات، والإتيان بحركات وأفعال تحُضُّ على الفسق.
لقد حازت صور و«فيديوهات» المرأة الأغلبية في المنصتين المذكورتين، والدخول إلى إحداهما يعني الدخول إلى الوحل، بعدما انتُزع الحياء وطغت الوقاحة؛ فهناك فتيات يرقصن في الشوارع بملابس فاضحة ليحصدن «اللايك والفلو» بصورة تدل على تفسخ مجتمعي وتفكك عائلي، ولم يعد غريبًا أن يصاحب تلك الفتاة شاب يتناوب معها تلك الحركات الشبيهة بتلوي الأفعى، ولا تدري ما الصلة التي تجمعه بها، بل تطورت الظاهرة إلى قيام ثنائيات بتمثيل أدوار الزنى، والأدهى أن حالات منها تُصور في مجتمعات ريفية أو قبلية وعلى مرأى من أهلها الطيبين!
إننا أمام «فواحش افتراضية» خطيرة، يأباها الدين والعرف والقانون، وسوف تتحول المرأة المسلمة على أثرها إلى نسخة أو صورة من المرأة الغربية التي غدت سلعة بلا ثمن، وتحول مجتمعها إلى غابة رذيلة، ولا يخفى تأثير هذه المشاهد على عموم المجتمع من حيث اعتياد الحرام وعدم معارضته، وكلُّ هذا لا يليق بـ«الجوهرة المصون» التي لا ينبغي لها إبداء الزينة للأجنبي ومنهم الفاسق الذى يجد مبتغاه في ذلك مما أشار الله إليه بقوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) (النساء: 27).
إن مما لا يخفى أن جرائم نفس وهتك عرض عدة وقعت، في أرجاء عالمنا العربي، لـ«يوتيوبرات»، جرت مقدمات تلك الحوادث داخل الفضاء الإلكتروني، ثم تمت الجريمة خارجه تصفية لحسابات بين الطرفين أو سبق إصرار على مواقعة إحداهنّ، والجريمة تجرُّ أختها، مثلما وقع من بعضهن من ابتزاز للمتابعين أو النصب عليهم معتمدات على شهرتهن، والخطر هنا أن المرأة صارت رقمًا في عالم الجريمة بعد أن كانت حكرًا على الرجل.
إن على الجهة الرسمية دور الرقابة على المَشَاهد والمواد التي تنشر وتذاع على هذه الشبكة؛ حماية للمجتمع من ضررها، ووقاية من خطرها، والأمر ليس فيه صعوبة تُذكر، إلا إذا كان في ذلك إلهاء مقصود لصرف الأنظار عن السياسات والإستراتيجيات الحكومية بنشر هذا العبث، وقد تمّت بالفعل محاولات جادة قلّلت كثيرًا من هذا الانفلات الذي يزري بالمرأة ويكرّس الانهيار الأخلاقيّ.
وإن للدعاة الدور الأكبر في لجم هذه الظاهرة؛ بتبيان الحلال والحرام، وتقديم الآيات والنصوص الدالة على مغبة ارتكاب هذا التفلُّت من جانب هؤلاء النسوة، بل المجتمع بكامله مكلفٌ من أجل صدِّ هذه الموجة من التلوث والانحلال؛ لئلا نندم بعد فوات الأوان، وقد أغرى الصمت الكثيرات إلى ارتكاب جرائم أخرى مثل استغلال كبار أو صغار السن في هذه الأعمال المخلة، أو الاستعانة بذوي الاحتياجات الخاصة للوصول إلى مبتغاهن المشين.
_____________
(*) كاتبة وباحثة.