يعيش عالمنا اليوم بشكل عام حالة من التفكك الأسري والتفتت الاجتماعي اللافت للنظر، فمنذ نشوب موجات الحداثة الغربية الأولى تم تشجيع الفردانية على حساب المجموع، ومن ثم تم تأسيس سائر الإجراءات والقوانين التي تحمي حقوق الفرد، سواء في مواجهة السلطة (الديمقراطية)، أو في مواجهة الإله (العلمانية)، أو حتى في مواجهة الأسرة (حرية العلاقات خارج إطار الزواج)، وحتى إذا تراضى الطرفان على مؤسسة الزواج، فإن ترسانة من الحقوق تحمي سائر أفراد الأسرة في مواجهة بعضهم بعضاً، وبما يسهم في كثير من الأحيان في هدم مؤسسة الأسرة وتغييب أهم ملامحها المتمثلة في التماسك والتآزر وذوبان الفرد في المجموع.
ورغم ظهور الحداثة منذ عدة قرون مضت، واستقرار الفردانية في مواجهة مؤسسة الأسرة، لكن عالمنا العربي قد تمكن من الحفاظ على هويته الأسرية القوية عبر تاريخ مضى، إلى أن بدأت ظاهرة جديدة تطرأ في السنوات القليلة الماضية على ساحتنا الاجتماعية العربية، تمثلت في ارتفاع معدلات الطلاق والعنوسة والتفكك الأسري بشكل يدق ناقوس الخطر، ويدفع للبحث في مؤشرات تلك الظاهرة ودلالاتها، وعلاقتها بقوانين الأحوال الشخصية في عالمنا العربي.
إحصاءات الطلاق
وتشير الإحصاءات إلى ارتفاع ملحوظ في نسب الطلاق في العالم العربي بأسره، وبمعدلات كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية، حيث يشير تقرير «الإيكونوميست» الصادر في سبتمبر 2022 إلى أن أكثر من نصف الزيجات في دولة الكويت تنتهي بالطلاق، بينما ثلث الزيجات في الأردن ولبنان وقطر والإمارات تنتهي بالطلاق.
وتضع الإحصاءات الأخيرة لعام 2022 الكويت في المرتبة الأولى عربياً بأعلى نسبة طلاق تصل إلى 48%، بينما تأتي مصر في المرتبة الثانية، ثم قطر والأردن في المركزين الثالث والرابع بنسب طلاق تتعدى 37%، أما في لبنان والإمارات فإن نسب الطلاق فيهما قد وصلت 34%، تليهما السودان والعراق ثم السعودية.
وبينما يأتي العامل الاقتصادي كسبب رئيس في ارتفاع معدلات الطلاق في مصر والعراق والسودان، على سبيل المثال، فإنه لا يفسر الظاهرة في الدول الخليجية التي تتسم بالرفاهة المادية، إذ ترجح معظم الدراسات السبب الرئيس في ارتفاع نسب الطلاق إلى ظاهرة تحرر النساء وخروجهن لسوق العمل واستقلالهن المادي والمعنوي، وما أُدخل على قوانين الأحوال الشخصية من تعديلات بما أمدهن بأسلحة لم تكن تتوافر لهن في الماضي مكنتهم من رفض القيود الاجتماعية المفروضة عليهن ليجدن في الطلاق حلاً لمشكلاتهن.
لكنَّ عاملاً مهماً يتمثل في استحواذ طلاق السنة الأولى على الأغلبية الساحقة من الحالات، بما يؤشر على غياب جاهزية معظم الشباب وانعدام التأهيل الحقيقي لهم قبل الإقبال على تأسيس أسرة، وهو مؤشر مهم أيضاً على ارتفاع نسب الزواج المبكر لشباب وفتيات غير قادرين على تحمل المسؤولية نتيجة صغر أعمارهم، بما يتطلب مزيداً من الحسم والرقابة على الحد الأدنى لسن المقبلين على الزواج وسن تشريعات قوية في هذا الشأن.
إحصاءات العنوسة
وفي تقرير مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث، أشار التقرير إلى نسب غير مسبوقة لمعدلات العنوسة في عالمنا العربي، وبحسب التقرير، فإن نسبة العنوسة هي نسبة النساء اللاتي لم يسبق لهن الزواج فوق سن الـ35، إذ جاء لبنان في المركز الأول بنسبة 85% من النساء، تليه تونس بنسبة 81%، في حين جاء العراق في المرتبة الثالثة بنسبة تتراوح بين 70 – 85%، والإمارات في المرتبة الرابعة بنسبة تتراوح بين 70 – 85%، ثم سورية بنسبة 70% في المرتبة الخامسة.
ويعزو الباحثون أسباب العنوسة للأسباب نفسها التي أسهمت في رفع معدلات الطلاق، فالأسباب الاقتصادية المرتبطة بارتفاع تكاليف الزواج وخروج النساء للعمل وشعورهن بالاستقلالية المادية هما أهم سببين لتراجع الإقبال على الزواج، وذلك فضلاً عن أن ارتفاع معدلات الطلاق والتفكك الأسري بات من أهم عوامل عزوف الشباب العربي عن الزواج؛ إذ حطمت ظاهرة الطلاق من جاذبية مؤسسة الزواج والأسرة لدى الشباب، وأسهم عجز قوانين الأحوال الشخصية عن توفير مظلة قانونية عادلة لتنظيم فوضى الطلاق في شعور الشباب بالخوف من الإقبال على الزواج.
هذه الفوضى الاجتماعية لظاهرتي الطلاق والعنوسة وما يترتب عليهما من تفكك اجتماعي وانهيار أسري شامل يضع المشرع العربي أمام تحدٍّ حاسم بشأن قوانين الأحوال الشخصية العربية، وما قد تكون تسببت فيه تلك الترسانة القانونية بشكل مباشر أو غير مباشر من مفاقمة تلك الفوضى الاجتماعية بدلاً من علاجها واجتثاثها، ويجعل من قوانين الأحوال الشخصية قضية شديدة الخطورة تأتي على رأس جدول أعمال القضايا العاجلة التي يجب على صانع القرار في سائر البلاد العربية أخذها في الحسبان.
يُعزز من أزمة قوانين الأحوال الشخصية العربية حقيقة أنها وضعت على أقل تقدير منذ نصف قرن مضى، أي أنها تخاطب أجيالاً بعيدة الشقة عن جيل العصر الراهن، وتحل مشكلات اختفت منذ عقود، وتناقش قضايا لم تعد مطروحة على الساحة، وهذا يستدعي أولاً إعادة نظر شاملة لتلك القوانين وفلسفاتها وقضاياها ومفاهيمها.
فقانون الأحوال الشخصية المصري، على سبيل المثال، تم وضع مواده التأسيسية الأولى عام 1920م؛ أي قبل قرن كامل من الزمان، وقوانين الأحوال الشخصية في تونس والعراق تم وضعها في الخمسينيات؛ أي قبل ما يزيد على السبعين عاماً، ورغم إدخال تعديلات على بعض مواد القوانين في مناسباتٍ عدة، فإن مرور كل تلك السنوات على اللبنات التأسيسية لقوانين الأحوال الشخصية يعطي إشارة مهمة لتجاوز الزمن لتلك القوانين التي تحتاج إلى فلسفة جديدة كلياً تستلهم روح الشريعة الغراء ولا تنفصل عن روح العصر.
فقد فاقم من مشكلة تلك القوانين ما أُدخل عليها من التحديثات العصرية الوضعية والرغبة المستمرة في التلفيق والتوفيق بينها وبين القوانين الحديثة والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان والمساواة، وهو ما جعلها مسخاً بين قوانين قديمة غير ملائمة للعصر الحديث وبعض المواد الحديثة غير المتماشية مع الروح العامة التي اتسمت بها تلك القوانين.
كذلك، فإن أغلب تلك القوانين العربية للأحوال الشخصية قد تم وضعها في غياب كامل للحوار المجتمعي والمشاركة الفعالة من أصحاب الشأن من أفراد المجتمع، إذ كانت معظم الدول العربية آنذاك ترزح تحت وطأة الاحتلال وظلمات الجهل، ولم يكن يتوافر آنذاك سهولة التواصل الجماهيري التي أفرزتها ثورة التكنولوجيا، وبالتالي فإنها تأسست من جانب واحد، بينما تمس تلك القوانين حياة كل فرد وكل أسرة، ويجدر أن يتحقق رضاء اجتماعي عنها عبر مناقشات مجتمعية ومشاركات موسعة في بنودها وفلسفاتها لإثراء محتواها القانوني والفلسفي، ولتلبي حاجات ومطالب الأفراد الذين ستطبق عليهم.
_______________________________________________________
باحثة في الفكر الإسلامي، دكتوراة العلوم السياسية جامعة القاهرة.