إن البيئة لا بد من المحافظة عليها، وعدم إحداث أي خلل فيها يؤدي إلى اضطراب في التوازن البيئي يضر الإنسان والكائنات الحية، وقد اهتمت السُّنة النبوية بوضع القواعد العامة في التعامل مع البيئة التي لو أخذنا بها ما وصلنا إلى المشكلات البيئية التي نعاني منها اليوم.
يعاني العالم حاليًا من «الاحتباس الحراري»؛ وهو ظاهرة عالمية تتمثل في ازدياد حرارة الغلاف الجوي للكرة الأرضية نتيجة الارتفاع المفرط للغازات بسبب الثورة الصناعية وسوء استغلال الموارد البيئية.
وقد استشعر العالم الخطر المحدق بالحياة على سطح الأرض، فاتجهت 178 دولة للاجتماع تحت مظلة الأمم المتحدة عام 1992 في قمة «الأرض»، تم خلالها التوقيع على اتفاقية «المناخ» للحد من التلوث العالمي في 21 مارس 1994، والدعوة إلى تأصيل القيم الأخلاقية في التعامل مع البيئة.
وقد اهتم القرآن الكريم والسُّنة النبوية بوضع الضوابط الأخلاقية التي تحكم علاقة الإنسان بالبيئة من أجل ضمان استمراريتها صالحة للحياة؛ فيقول سبحانه: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الأعراف: 85)، ويقول سبحانه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) (الروم: 41).
وقد وضعت السُّنة النبوية أسس التعامل مع البيئة والمحافظة عليها وعدم الإخلال بها وسوء استغلالها، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث إلى الاستغلال الرشيد للبيئة، وعدم الإضرار بها حتي تنتفع بها الأجيال القادمة، وهو ما يطلق عليه اليوم مصطلح «التنمية المستدامة» التي لو اتبعها العالم لتجنب كثيراً من الأخطار المحدقة به.
أسس الحفاظ على البيئة في السُّنة:
1- التوازن في استغلال موارد البيئة؛ نظم ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يمثل القاعدة العامة في سائر معاملات الإنسان بقوله: «لا ضرر ولا ضرار»(1)؛ ولذا صار دفع الضرر مقدماً على جلب المصلحة؛ لكن الأمر اختلف في عالمنا اليوم؛ فقد صار الاهتمام بجلب المنفعة أهم من الأضرار الناتجة عنه.
والاعتدال من المبادئ التي دعا إليها الإسلام في تعامل الإنسان مع موارد البيئة ونهي عن الإسراف فيها، فقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأحد الصحابة، وهو يتوضأ؛ فقال: «ما هذا السَّرف؟»، فقال: أفي الوضوء إسراف؟! قال: «نعم، ولو كنت على نهر جارٍ»(2).
2- المحافظة على نظافة البيئة؛ لقد كانت الحياة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بسيطة، ووسائل تلوث البيئة من ماء وتربة محدودة، وبالرغم من ذلك، فقد نهى عما يلوث البيئة بوضع المخلفات في الماء أو في طرق الناس والأماكن التي ينزلون بها، ودعا إلى إزالة ما يعترض طريق الناس من العوائق التي اعتبرها سلوكاً إيمانياً؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إماطة الْأَذَى عن الطَّرِيقِ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»(3)، وفي حديث آخر يوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة جزاء من يرفع الضرر من طريق الناس، فكانت شجرة في طريق الناس تؤذيهم، فأتاها رجل، فعزلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلقد رأيتُهُ يتقلَّبُ فِي ظلِّها في الجنَّةِ»(4)، والماء هو أساس الحياة على الأرض؛ فنهى عن إلقاء المخلفات في الماء والطريق وأماكن الظل التي يستريح فيها الناس(5)، ونهى كذلك عن البول في الماء الراكد أو الجاري(6).
وهناك نهي عن تلويث الماء؛ لأن هذا الصنيع مع قذارته ونفور النفس منه يولد أمراضًا وبائية، بينما ازدادت ملوثات التربة والماء في أيامنا بإلقاء مخلفات الصرف الصحي وعوادم المصانع والنفايات فيها ما يهدد الإنسان والكائنات الحية.
3- المحافظة على التنوع الحيوي للبيئة؛ يقصد بالتنوع الحيوي تعدد أنواع الأحياء الموجودة في البيئة التي يعيش فيها الإنسان من الحيوانات والنباتات، والكائنات الحية الدقيقة، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القضاء على نوع معين من الحيوانات غير الضارة حتى لو كانت غير مفيدة للإنسان إلا أن لها أهمية في حفظ التوازن البيئي، فنهى عن قتل الكلاب بقوله: «لولا أَنَّ الكلابَ أُمَّةٌ من الأُممِ لأمَرْتُ بِقَتْلِهَا؛ فاقتُلُوا منها الأسودَ البهِيمَ»(7)، و«نهى عن قتل أربع من الدواب: النّملة والنحلة والهُدُهد والصَرد»(8)، و«نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع»(9).
والغريب أننا نشاهد فناء أنواع من الحيوانات نتيجة إفراط الإنسان في صيدها حتى أوشكت على الانقراض، وأنواع أخرى قد فنيت نتيجة تلوث البيئة المحيطة بها.
4- المحميات الطبيعية؛ لقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة ومكة، فلا يُصاد ولا يُقتل فيهما طير ولا حيوان إلا المؤذي، ولا نبات إلا ما اقتضته الضرورة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «المدينة حَرمٌ ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»(10)، «فلا يقتل أو يُروّع طيرها وحيواناتها، ولا يقطع شجرة في الحرم أو يكسرها أو يحرقها، أو يزيل نباتًا إلا ما كان منه(11).
وألغى النبي صلى الله عليه وسلم نظام المحميات التي كانت مصدرًا للحروب والنـزاعات البيئية في الجاهلية من خلال تنظيم أسس التعامل مع البيئة، وحفظ حقوقها، ومنع الاعتداء عليها ومحاولة احتكارها، فقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم النقيع، وحمى عمر الشرف والرُّبذة(12).
5- محاربة التصحر والحفاظ على المساحات الخضراء؛ إن ارتفاع درجة حرارة الأرض نتيجة لظاهرة الاحتباس الحراري تؤدي إلى الجفاف والتصحر ونقص المساحات الخضراء، وارتفاع غاز ثاني أكسيد الكربون؛ مما يجعل الإنسان يشعر بالضيق في التنفس.
وقد ورد الكثير من الأحاديث النبوية التي تهتم بالتشجير واستصلاح الأراضي والمساحات الخضراء كغرس الأشجار وحمايتها وعدم قطعها لغير مصلحة عامة، ورغبت السُّنة في الغرس والتشجير ونشر المساحات الخضراء سواء منها ما انتفع الإنسان بثماره أو بظله، فله صدقة ينميها الله تعالى لصاحبها إلى يوم القيامة، وكذلك إذا أكل منه الطير أو السباع والحيوان والدواب والحشرات، فعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرسُ غرسًا أو يزرع زرعًا؛ فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إِلَّا كان لهُ به صدقة»(13).
وفي الحث على الغرس والتشجير والزرع، يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يقَومَ حَتَّى يغَرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ»(14)، ونهى عن قطع الأشجار التي يستظل بها الناس؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: «من قطع سِدرةً صوب الله رأسه في النار»(15)، وشجرة السِّدر تنبت في الصحاري؛ فينتفع الناس بظلالها والأكل من ثمارها، ودعا إلى استصلاح الأراضي التي لم تزرع من قبل (الموات)، فيقول صلى الله عليه وسلم: «من أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق»(16)؛ أي أحق بها.
___________________
(1) سنن ابن ماجه.
(2) سنن ابن ماجه.
(3) النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه.
(4) مسند أحمد.
(5) سنن أبي داود.
(6) صحيح مسلم.
(7) سنن الترمذي.
(8) سنن ابن ماجه.
(9) سنن أبي داود.
(10) صحيح مسلم بشرح النووي.
(11) راجع: صحيح مسلم بشرح النووي.
(12) صحيح البخاري.
(13) فتح الباري.
(14) مسند الإمام أحمد.
(15) سنن أبي داود.
(16) فتح الباري بشرح صحيح البخاري.