فرض الله سبحانه على عباده فرائض، لا من أجل عقابهم، لكن من أجل إصلاحهم وتزكيتهم، وتأهيلهم لنيل جنة الخلد، إذ لا ينال الجنة إلا من أسلم واستسلم لأمر الله تعالى، واستسلام القلب لله تعالى درجة عالية لا تأتي إلا بعد طول ترويض للعبد بالطاعات، ومثلنا الأعلى في استسلام القلب لله تعالى هو سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وعلى أعماله تدور جل مناسك الحج، فإبراهيم أظهر قمة الاستسلام لله تعالى، واستسلم معه إسماعيل عليه السلام في قصة عجيبة لا تكاد تستوعبها العقول، فأنى لرجل يرزق بولد على كبر، وقلبه يتعلق به أيما تعلق، ثم يتركه رضيعًا مع أمه، وحيدين في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، تنادي عليه زوجه وهي في قمة ضعفها، وحزنها على وضعها وفراق زوجها، وفي قمة خوفها على صغيرها قبل نفسها، فخرجت تلهث وراء زوجها تستعطفه: يا إبراهيم على من تتركنا؟ ولا يلتفت، فقالت له: الله أمرك بهذا؟! قال: نعم، قالت: إذن، لا يضيعنا الله.
قمة الرضا وقمة التسليم منها، فما بالك بتسليم زوجها، وهو يتركهما مع مرارة قلبه، وشدة حنينه، ولكن ماذا يفعل؟! إنه أمر الله، لذا بمجرد أن توارى عنهما، انزوى يبكي ويتضرع لربه، مع شدة رضاه بأمر الله تعالى، قال تعالى حاكيًا عن إبراهيم قوله: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37).
وها هو اليوم يأتي لا ليزوره ويطمئن عليه، بل ليذبحه، يا له من أثر شديد على النفس، ولكن استسلام إبراهيم كان عجبًا، وكذلك استسلام إسماعيل بقوله: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102).
فلما استسلم إبراهيم، واستسلم معه إسماعيل، تحقق مراد الله منهما، فليس مراد الله تعالى تعذيب إبراهيم، ولا إراقة دم إسماعيل، ولكن مراده أن يستسلما لرب العالمين، قال تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ {103} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ {107} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ {108} سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الصافات).
وهكذا مراد الله من كل عبادة فرضها الله على عباده؛ ألا وهو التسليم والاستسلام لله رب العالمين، وكان كل تكليف في استطاعة العبد، ولذا جعل القدرة مناط التكليف، فلما كان التكليف عند إبراهيم لا تطيقه النفس، ومع هذا استسلم إبراهيم، خففه الله تعالى عنه على الفور، وكان كل تكليف للعباد في مقدورهم، فلا بد أن يستسلموا لله رب العالمين، وينفذوا أمره طالما يستطيعون ذلك.
ومن هنا كانت عبادة الحج، ليس المقصود منها تعب الأبدان، ولا إنفاق الأموال في سفر وعودة، ولا تأدية مناسك لا تعرف علتها، إلا لأجل إظهار الاستسلام لله، وإطاعة أمره كما أراد، وإلا فما معنى أن أهل بالإحرام، ومن ميقات معين؟ وما معنى أن أطوف بأحجار بناها بشر مثلنا؟ ولم أسع بين الصفا والمروة ولا حاجة لي إلى الماء مثل هاجر عليها السلام؟ ولم أقف بعرفات في الزحام والجبال كثيرة؟ وما السر في أن أرمي الجمرات وأنا لا أرى الشيطان؟ ولم لا أرمي الجمرات كلها مرة واحدة وأستريح؟ ولم أنحر هديي بمكة وربما فقراء بلدتي أولى؟ وكيف أحلق شعري هناك وربما في بلدي حلاق أفضل؟ لم كل هذه المناسك وربما لا علة لها عندي؟
هذا يبينه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله كما روى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حيثُ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْمِي الْجَمْرَةَ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا» (رواه مسلم، 1270).
ومن هنا فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عليه فقط أن ينفذ ما أمر به، امتثالًا لأمر الله تعالى، واتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ أَبَاهُ، حَدَّثَهُ قَالَ: قَبَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْحَجَرَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَ وَاللهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» (النسائي، 3062).
إذن كل عمل من أعمال الحج يأتي مصداقًا لقوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ) (هود: 112).
فالحج كغيره من العبادات يندرج تحت الاستقامة كما أمر المعبود سبحانه، فنحن لا نعبد الله بأهوائنا، بل كما أمرنا الله تعالى، فإن كنا نصلي ونصوم ونحج كما أمرنا الله، فعلينا أن نزكي وننفق ونأكل ونشرب ونبر بوالدينا ونحسن لجيراننا كما أمرنا الله!
وإن كنا ننتهي عن قتل الصيد، وعن جماع نسائنا ونحن حُرم، لأن الله نهانا عن ذلك، ونخاف على سلامة حجنا، فعلينا أن نقلع عن كل محرم نهانا الله عنه في حياتنا، فلا زنى، ولا ربًا، ولا سرقة، ولا أكل مال يتيم، ولا ظلم لأحد، سلامة لآخرتنا.
إذا كنا نستسلم لله في الحج، وفي كل العبادات، فعلينا الاستسلام لله تعالى فيما يجري علينا بقضاء الله، وأن نجعل حياتنا كلها لله تعالى، قال الله عز وجل: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام).