تبدو العلاقة بين العلمانية والإسلام مسألة شديدة الارتباك في المشهد الفكري المعاصر بين من يحصر العلمانية في طورها التاريخي الأول، متجاهلاً ما طرأ عليها من تطورات كبيرة، فيراها مجموعة من الإجراءات التصحيحية التي أرادت أن تحرر العقل من سلطان الكهنوت، والعلم من خرافات الكنيسة، والحياة الاجتماعية والسياسية من الاستبداد المتلفع بالقداسة الدينية، وهؤلاء يرون أن العلمانية كانت ضرورة لطي صفحة التخلف وابتداء دورة حضارية جديدة استطاع الغرب فيها تحقيق نهضته المعاصرة، ويرون أن هذا المستوى من العلمانية «الإجرائية» أو «الجزئية» قابل للاستنساخ، وصالح للمحاكاة في بيئتنا الإسلامية.
في حين يرى آخرون العلمانية في طورها الذي انتهت إليه -على ما بين البدء والختام من تباعد- ويرى هؤلاء أن العلمانية في صورتها المعاصرة عقيدة مكتملة الأركان تصبغ المجتمع والفرد على حد سواء بصبغتها التي تقوم على أركان أربعة، هي: إنسان بلا إله، ودنيا بلا آخرة، وشهادة بلا غيب، ومادة بلا روح.. على نحو ما نجده عند «ماركس»، الذي زعم أن الدين أفيون للشعوب، هكذا بهذا الإطلاق والتعميم الذي يجعل كل الأديان سواء ويضعها في سلة واحدة.
أما «نيتشه» فقد امتطى علمانيته الشمولية ليعلن في صفاقة كاملة موت الإله ونهاية هيمنته على الحياة البشرية، ورفع «سارتر» لواء الوجودية ليضع البشرية أمام خيارين لا يمكن الجمع بينهما، هما الحرية والإيمان: «إما أن أكون حراً، أو يكون الله موجوداً»، وهذه مسألة مركزية في فهم المضمون العلماني، فالعلاقات دائماً حدية والخيارات دائماً بين متناقضات: فإما دين وإما دنيا ولا يمكن الجمع بينهما، وإما عقل وإما نقل ولا سبيل لجسر الهوة بينهما، وإما علم وإما وحي ولا يلتقيان، وإما بحث تجريبي وإما إيمان غيبي ولا يجتمعان.
وقد حسم المشروع العلماني خياراته على هذا الأساس من الحدية دون اعتبار لما قدمه التصور الإسلامي من مزاوجة بين هذه المفاهيم بحيث تتكامل ولا تتعارض.
فالعقيدة العلمانية على هذا النحو الذي آلت إليه دنيوية الموضوع مادية التصور بشرية المنتهى ترفض الغيب وتقصي الدين ولا تنصاع لفكرة الإله الخالق، والعلمانية الاجتماعية أو السياسية أو غيرها هي انعكاس لذلك التصور العقدي الذي يفسر الوجود ويحدد موقع الإنسان منه وغاياته ومقاصده وفقاً لذلك، فالإنسان هو محور الوجود وصاحب السيادة عليه، والغاية من وجوده هي تحقيق أقصى درجات اللذة والمنفعة، والطريق إلى ذلك إتاحة الحريات المطلقة، والموانع التي تحول دون ذلك ستكون في المقام الأول موانع دينية وأخلاقية واجتماعية ترتبط بأعراف المجتمع وتقاليده.
لذلك عمد المشروع العلماني إلى كسر هذه الثوابت بالتدريج وصولاً إلى فرض نموذجه الذي بات يتعامل مع قضية «المثلية»، على سبيل المثال، بوصفها جزءاً من الأيديولوجيا العلمانية التي يراد لها أن تصبح القانون الاجتماعي الأول، معلنة الانتصار على كل خصومها على المستوى الديني والاجتماعي والأخلاقي.
وفي ضوء هذا يمكن لنا أن نفهم لماذا تتعامل العلمانية مع الهوية الإسلامية بوصفها تهديداً مباشراً للمشروع العلماني؛ فتتحالف الديمقراطية العلمانية الغربية مع نسخ علمانية إقصائية استبدادية تعيد إلى الأذهان نماذج الحكم الاستبدادي الذي ثارت عليه العلمانية الأولى!
والحديث عن العلمانية الجزئية في ظل هيمنة تيار العلمانية الإلحادية الشمولية على المشهد برمته هروب من الحقيقة الماثلة إلى الأمنيات الفارغة، والحقيقة أن هذه النسخة العلمانية تمثل تهديداً وجودياً للمجتمع المسلم، فهي لا تقتصر على فصل الدين عن الدولة، لكنها تعمل على فصل الدين عن الحياة برمتها.
وفي موسوعة العلوم السياسية الكويتية: «العلماني عكس الديني، ويستخدم اصطلاحاً للإشارة إلى مدخل للحياة ينفصل تماماً عن الدين، ويتشكل كلية باهتمامات زمنية دنيوية، وهي على المستوى الشخصي تعني: استبعاد الحس والشعور الديني من نظرة الفرد إلى جميع الأمور التي تتعلق بحياته وعلاقاته وسلوكياته، ومعاملاته السياسية وغيرها، والعلمانية على المستوى العام هي: المذهب الذي يؤمن بضرورة إبعاد المؤسسات والمضامين الدينية عن ممارسة أي تأثير في أي من مجالات الحياة، بما في ذلك التعليم والتشريع والإدارة» (موسوعة العلوم السياسية، مادة «العلمانية»، ص 297-299).
وتتمثل الأخطار التي تحملها العلمانية على المجتمع المسلم فيما يأتي:
1- مصادمة الأساس العقدي الذي ينبني عليه كيان المجتمع المسلم ويتربى عليه أفراده: فالمسلم يعتقد أن الله تعالى خلق وملك ودبر وأمر: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54)، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك: 1).
2- تذويب المرجعية: يمثل الإسلام؛ عقيدة وشريعة، حصناً للمجتمع المسلم ومرجعية ثابتة ضابطة ينطلق منها ابتداء ويرجع إليها استدامة، وهذه المرجعية تمنح المجتمع المسلم الاستقرار والاستمرار والتفاهم بين أفراده، ومن الخطورة بمكان أن يتم العبث بمرجعية مجتمع من المجتمعات خاصة إذا كانت مستقرة ثابتة؛ إذ يؤدي ذلك إلى الفوضى والتآكل الاجتماعي، لذلك جعل الله تعالى وحيه بمثابة الروح للأمة المسلمة بحيث تفقد وجودها الحقيقي إذا فقدت مرجعيته الحاكمة؛ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى)، والعلمانية تسعى إلى إقصاء الدين إقصاء كاملاً، فلا بد من الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي، ولا بد كذلك من ازدراء ما كان دينياً والاحتفاء بما كان دنيوياً، وهذا يؤدي إلى انفراط عقد المجتمع حين يبدو أن كل شيء مطروح للنقاش وخاضع للتقييم والتغيير!
3- تقويض الأسرة وتفكيك منظومتها: يبدو جلياً أن الأسرة المسلمة تمثل هدفاً رئيساً للمشروع العلماني، وإن مر هذا الاستهداف بمراحل وأطوار؛ فبدأ الأمر بانتقاد مسائل بعينها مثل: تعدد الزوجات، وانفراد الرجل بالحق في الطلاق، وتمييز الابن عن البنت في الميراث.
4- توجيه الطاقة البشرية للأخذ عوضاً عن العطاء: تقوم الفكرة العلمانية على ترسيخ مفهوم الفردانية على حساب الجماعية التي ينشدها الإسلام، والفردانية العلمانية لها مستويان رئيسان، هما: فردانية المتعة، وفردانية الاستهلاك أو اللذة والسوق.
ففي الوقت الذي يسعى الإسلام لضبط الشهوة وتوجيهها في إطار بناء المجتمع والحفاظ على تماسكه السكاني والأخلاقي، يسعى النموذج العلماني لإطلاق الشهوات إلى حدها الأقصى ولو على حساب المجتمع، فالفرد عندهم قبل الجماعة.
5- تكريس الاستبداد والانسداد السياسي والاجتماعي: يبدو جلياً أنه لا سبيل أمام المشروع العلماني في بلادنا إلا استخدام أعتى صور الاستبداد لعلمه المسبق أن إتاحة الحرية لا تؤدي لما يريده، والخيار واضح؛ إما حرية يترتب عليها ترسيخ الهوية الإسلامية، وإمام إقصاء لهذه الهوية يحتاج إلى استبداد وقمع ليغالب خيارات المجتمع وموروثاته.
وإزاء هذه التهديدات الجمة التي تمثلها العلمانية الشمولية لاستقرار مجتمعاتنا، فإن الخيار الأول هو الأخذ بكل الأسباب الممكنة لتربية النشء على قيم الإسلام وأصول حضارته الراشدة، بحيث لا يكون أسيراً لشهواته ولا حبيس أهوائه، والذود عن الأسرة التي هي نواة المجتمع المسلم وركيزته الأولى حتى تبقى صامدة راسخة حامية لحاضر الأمة ومستقبلها، والسعي إلى مزيد من الحريات السياسية التي تتيح المجال للنقاش الفكري الحر.