في الوقت الذي كان الصحابة رضوان الله عليهم يعانون من وطأة المرحلة المكية القاسية، فكان أحدُهم لا يأْمَن على نفسه قضاء حاجته، نزلت سورة «الروم»، التي تتحدَّث عن الصراع الدولي بين قطبي العالم آنذاك؛ بين المعسكر الغربي متمثلاً في الروم كأهل كتاب، والمعسكر الشرقي متمثلاً في الفرس كمجوس.
ومن الفقه السياسي القرآني الذي نستشفه من ذلك هو ارتقاء تصور المسلم في متابعة الشأن العالمي إلى مستوى الرصد والمتابعة الدقيقة لحجم التحولات وشكل الصراعات التي تدور رَحَاها من حوله، وإنْ لم يكن معنياً بها بشكل مباشر.
ولم يقف القرآن الكريم بهم عند حدود تلك الحادثة من الصراع، بل امتد بهم إلى الاستشرافات المستقبلية والآفاق السياسية البعيدة، ليصلهم بالكون كله، ويربط عقولهم ونفسياتهم بسنن التغيير وشروط النصر واستحقاقات التمكين، فيستوعبوا أبعاد الزمان كله في الاستشراف، فيجمعوا بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولا يرهنوا أنفسهم بلحظة زمنية مؤلمة من الهزيمة أو الاستضعاف، وكأن التاريخ يتوقف عندها.
لقد ألَّف «فرانسيس فوكوياما»، المفكر الأمريكي – الياباني الأصل، كتابه «نهاية التاريخ»، كأحد أهم ما صدر عن الليبرالية الغربية الأمريكية لحظة الغرور بتفكك الاتحاد السوفييتي وسقوط حائط برلين عام 1989م، الذي بدأه مقالاً في صائفة ذات السَّنة، وفق القصدية الخاصة لعقيدته الأصلية، معلناً فيه ميلاد أيديولوجية شعبوية جديدة، وهي أن الليبرالية والديمقراطية الغربية بعد هذا الاستفراد بالعالم هي ذروة الكمال التاريخي والإنساني، وأن الإنجاز الأمريكي يفرض نفسه كإنسان أوَّل في العالم، وعلى الجميع الاعتراف له بالتفوق المطلق والخضوع التام.
وهو اغتصاب لمفهوم التاريخ وحركته، واستحواذ مفضوح على كلية التاريخ وشموليته، وهو سقوط في القصور الفلسفي، إذ تورط الكاتب في التسطيح الصحفي والإثارة الإعلامية لعنوان كتابه، أكثر من ارتقائه إلى البرهنة العلمية الهادئة لمتن نصه، إذ يفتقد إلى قوة المحاججة الفكرية، ويفتقر إلى منطق الحقيقة التاريخية، فهو لا يستند إلا إلى الأمر الواقع فقط.
ومع أنه لا يختلف كثيراً عن الكم الهائل من الإنتاج الفكري في تلك المرحلة، إلا أنه قام بقفزة غير منطقية بين الحدث والتعسف في فلسفة الأمر الواقع، ورفعه إلى مستوى التعليل الإطلاقي، وإصدار الأحكام النهائية الحتمية، وهي «نهاية التاريخ» عند الزمن الأمريكي، وهو بذلك يعبِّر بشكل واضح عن أزمة الخطاب الفلسفي لليبرالية التي يعاني من إشكالية التأسيس للمفاهيم المنطقية والأبنية الفكرية.
فبالرغم من محاولاته الارتقاء إلى التحليل وتقديم الحجج وإقحام المفاهيم الأفلاطونية (نسبة إلى الفيلسوف اليوناني «أفلاطون» 427 ق.م – 347 ق.م)، والهيغلية (نسبة إلى الفيلسوف الألماني «هيغل» 1770م – 1831م)، فإنه لم يخرج من دائرة السجال السياسي اليومي في ذلك الوقت، ولم يكن كتابه إلا مجرد تدعيم لإعلان رئيسه «جورج بوش» الأب عن «النظام العالمي الجديد»، الذي يدَّعي فيه ارتقاء أمريكا إلى مصاف الكمال التاريخي، وأنها تجسد الاختيار الوحيد المتبقي للنعمة العقلانية المطلقة للإنسانية، وأن نهاية التاريخ هي الحقيقة الأمريكية المعروضة أمام العالم اليوم، ويجب على الجميع التسليم بها.
وبالمقابل، فقد ألَّف كذلك المفكر الأمريكي «صامويل هنتيغتون» بسنوات قليلة بعده كتاب «صدام الحضارات.. إعادة تشكيل النظام العالمي» عام 1996م، الذي اعتُبر آخر صيحة فيما يسمى بعلم المستقبليات، وتصدر جدول أعمال ذلك الجدل الصاخب حوله، وهو يرى بأن العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة سيكون عالَماً متعدد الحضارات ومتعدد الأقطاب، وأن الصراع فيه سيكون على أساس ثقافي، وأن الدين فيه سيكون محورياً، وهو القوة المركزية المحركة للبشر، مسقطاً دعوى عولمة الحضارة الغربية، للتفريق بين «التحديث» المحايد، الذي تتشارك فيه مع الآخر، وخاصة في المنتج الإنساني والمادي للحضارة، و«التغريب» والذي هو تفاعل القيم الغربية الثمانية، وهي: التراث الكلاسيكي من الإغريق والرومان، والمسيحية الغربية (البروتستانتية والكاثوليكية دون الأرثوذكسية)، واللغات الأوروبية، والفصل بين السلطتين الروحية والزمانية، وحكم القانون، والتعددية الاجتماعية والمجتمع المدني، والهيئات التمثيلية، والنزعة الفردانية، واتحادها في توليفة مركبة ينفرد بها.
إذ لا يمكن للشعوب والدول الأخرى الارتقاء إليها والجمع بينها، وبالتالي لا يمكن عولمتها وفرضها عليهم بمنطق الحضارة الواحدة والقطب العالمي الأوحد، مع أننا لا نسلم له بأنها سمات فريدة يتميز بها الغرب عن غيره، أو أنها سمات تاريخية وخصائص جوهرية أصيلة فيه.
ويبدو مما تفتقت به قريحة «هنتيغتون» في كتابه هذا أنه لا مقام لأمريكا في هذا العالم إلا عبر تغذيتها بالصراع والخطر الخارجي، وأن السلام الحقيقي في العالم هو العدو الأكبر لها، فهو لم يحتف بسقوط الاتحاد السوفييتي لتنعم بالسلام، بل ذهب بعيداً في التنظير إلى حتمية «صراع الحضارات»، وهو ما يتوافق مع مقولة مستشار «غورباتشوف» للأمريكيين: «نحن نقوم بأمر مروّع لكم، فنحن نحرمكم من عدو»، لأن الحماية من العدو الخارجي هي الهوية أو المصلحة القومية أو سلعة الأيديولوجية في تماسك الوحدة الأمريكية.
لقد مثّلت الحرب الروسية – الغربية في أوكرانيا معركة وجودية، فهي ثورة روسية على الغرب، ورغم العقوبات الضخمة وحجم التحالف متعدد الأبعاد ضدها، فإنها مصمِّمة على المواجهة حتى النهاية، وقد صرح «بوتين»: «إن انهيار الهيمنة الغربية بدأ بالفعل، ولا عودة عنه».
وبالرغم من الخطورة الإستراتيجية لهذه الحرب على المعسكر الغربي، فإنها لم تغطِّ على تطور في تفكير مؤسسة الأمن القومي الأمريكي، وهو الاستعداد لتقليص التزامها تجاه أوروبا بشكل جذري، وأن السباق الرئيس المستقبلي يقع في المحيطين الهندي والهادئ ضد الصين، وأنه يجب على أمريكا تركيز كل مواردها هناك، وأن قلقاً أوروبياً بدأ يظهر في جوهر سياسة «اللامبالاة المهذَّبة» لأمريكا تجاهها؛ مما أثار النقاش حول الحاجة إلى السيادة الأوروبية والاستقلالية الإستراتيجية لها عنها.
فقد حددت أمريكا الصين كمنافس إستراتيجي لها في القرن الحادي والعشرين، وانتقل هذا التنافس الإستراتيجي من التنافس الاقتصادي إلى احتمالات الصدام العسكري، الذي تبدو ملامحه صارخة في تايوان، وقد قال «توني بلير»، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، في محاضرةٍ له: «إن أكبر التغيرات الجيوسياسية في هذا القرن ستثيرها الصين وليست روسيا»، مضيفاً: «أنّ العالم سيصبح -على الأقل- ثنائي القطب، أو ربما متعدد الأقطاب، ونقترب من نهاية الهيمنة الغربية في السياسة والاقتصاد».
ويرى المفكر الروسي «ألكسندر دوغين» أن العالم في مفترق الطرق، وأن التاريخ مفتوح الآن، ونحن بين مستقبلين:
الأول: حيث يشهد العام 2050م انتصاراً كاملاً لا رجعة فيه للعولمة الغربية وللأحادية القطبية، وتنصيباً لحكومة عالمية، وظهوراً لعصر ما بعد الإنسانية، وتدميراً للأنواع البشرية من جانب الأنواع ما بعد البشرية (الذكاء الاصطناعي، السيبرانية، الهندسة البيولوجية، التكوين الجيني الجديد، وجميع أنواع المخلوقات ما بعد البشرية، ومجتمع ما بعد الإنسان الموحَّد)، وذلك في تقديره عندما تخسر روسيا الحرب أمام الغرب.
الثاني: هو الذي تنتصر فيه روسيا على الغرب، إذ يتم تأمين عالم متعدد الأقطاب، وذلك خارج دائرة الهيمنة الغربية، وسيظهر قطبان آخران، وهما: روسيا والصين، كما ستظهر الهند كقطب ثالث، والعالم الإسلامي كقطب رابع، وأمريكا اللاتينية كقطب خامس، وأفريقيا كقطب سادس.
وأن العلاقة الطبيعية بين هذه الأقطاب هي علاقة الاحترام والتعاون والتعايش بين الحضارات، وليست تلك العلاقة المبنية على أوهام «نهاية التاريخ» لـ«فوكوياما»، أو «صدام الحضارات» لـ«هنتينغتون».
إن التحولات الكبرى في العالم لا تحدث طفرة، وإنما هي تراكمية لمسارات طبيعية، تعززها التطورات الاستثنائية، ولا شك بأن العالم يستعد للانتقال إلى واقع جيوسياسي جديد، ورغم حالات الضعف التي يمر بها العالم العربي والإسلامي، فإنه يملك من عناصر القوة ومقومات التأثير التي تجعله لاعبا محورياً في الهندسة المستقبلية للعالم.