السُّنة النبوية هي الأصل الثاني من أصول التشريع، وعبر العصور رأى المسلمون فيها تبياناً للكتاب ومصدراً للتشريع، حيث استمدت المدونة القضائية كثيراً من أحكامها من السُّنة، ولم تزل السُّنة معيناً لتوجيه الأخلاق وضبط السلوك وتنظيم الاجتماع الإنساني، إلى أن قام المستشرقون بنشر دراساتهم التي تشكك في مصدرية السُّنة، وتأثر بها نفر من المفكرين الحداثيين المسلمين الذين تابعوا المستشرقين في نهجهم التشكيكي.
وقد انطلقت أولى محاولات التشكيك من الهند في القرن التاسع عشر، ومنها انتقلت إلى العالم العربي، فظهرت في مصر خلال القرن التالي بضع محاولات خجولة للتشكيك في صحة الحديث، ومنها: محاولة محمد توفيق صدقي (1906م)، وإسماعيل مظهر (1940م)، ومحمد زكي أبو شادي (1955م)، واكتفت جميعها بالتشكيك في صحة الحديث ولم تدع أنها تقدم طرحاً جديداً (اجتهاداً) لم يسبقها إليه أحد من الأوائل أو الأواخر، فضلاً عن أنها لم تذهب إلى حد تفكيك الأسس التي تنهض عليها علوم الحديث، والتوسل في ذلك بالمناهج الفيلولوجية واللسانية، وهي المهمة التي اضطلع بها لاحقاً رواد مشروع إعادة تأويل التراث.
المنطلقات المنهجية
الحديث النبوي هو أحد الشواغل المهمة التي انشغل بها التأويليون الحداثيون منذ وقت مبكر، الذين راحوا يدحضون فكرة حجية والادعاء أنها ليست وحياً استناداً إلى حجج واهية، وقبيل بسط آرائهم في ذلك يجدر بنا بيان المسلَّمات المنهجية التي تسم مقارباتهم الحديثية، ولضيق المقام سنقف على مسلمتين:
الأولى: محاولة إيجاد رابط بين اليهودية والمسيحية وبين الإسلام في مسألة الوحي، فها هو جمال البنا في كتابه «تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم»، يفترض أن الأحاديث مدسوسة على الإسلام وليس لها أي تعلق بالوحي فيقول: «إن ما حدث للإسلام هو ما حدث لليهودية والمسيحية، فما تحدث المسيح بكل ما جاء في الأناجيل أو أعمال الرسل أو غيرها من مراجع المسيحية، وما تحدث موسى بكل ما جاء في التوراة والتلمود والمشنا، إن الأغلبية العظمى في مراجع كل دين هي من إضافات الإكليروس أو المؤسسة الدينية».
أما حسن حنفي، في كتابه «من النقل إلى العقل»، فيعتقد أن تدوين الأحاديث كان ينبغي أن يقتفي الأثر الإنجيلي حيث يقول: «لا توجد حتى الآن طبعة للحديث متقابلة في عواميد متوازية لمعرفة التشابه والاختلاف، الزيادة والنقصان بينهم كما هي الحال في الأناجيل المتقابلة»، وهو يطلق على مدونات الحديث الصحيحة لفظ «الإصحاحات الستة»، وينعت صحيح البخاري بالإصحاح الأول، وهكذا.
الثانية: التشكيك في الأحاديث بدعوى أنها موضوعة، ثمة إجماع بين التأويليين على كون الحديث لم يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه وضع لأغراض أيديولوجية، وهذا ما توصلت إليه فاطمة المرنيسي في بحثها عن دواعي إقصاء النساء من المجال السياسي، ويوافقها أحمد صبحي منصور الذي يفترض أن عملية «اختراع الأحاديث» بدأت مبكراً في ظل الفتنة الكبرى، حيث بادر الأمويون أثناء خلافة عثمان بتوظيف أبي هريرة ليدافع عنهم بأحاديث يزعم أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أضافوا له كعب الأحبار، ولما تولى معاوية الخلافة أنشأ منصب القصّاص للترويج له سياسياً بالأحاديث والأخبار.
ويناقش جمال البنا دواعي ظهور مرجعية الحديث مفترضاً أن الحاجة إلى الحديث تضاعفت مع اتساع الفتوح الإسلامية واتصال المسلمين بغيرهم من الشعوب؛ حيث واجه المسلمون جملة إشكالات وقضايا لا قبل لهم بها، وهو ما كان يتطلب من المحدثين سنداً تشريعياً بعد «انغلاق القرآن»، وكذلك كان هناك الحكام الذين يريدونها من أجل المشروعية، كما كان هناك الذين أرادوا إنقاذ الناس من البلبلة الفكرية والتخبط السلوكي.
ويذهب شحرور إلى أن جمع وتدوين الحديث غير ذي فائدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم «لم يفعله بنفسه ولم يفعله الصحابة من بعده لسبب واحد؛ وذلك لعلمهم أن جمعه ليس ضرورياً، وأن الحديث هو مرحلة تاريخية»، على حين يرجح حسن حنفي أن التدوين «ليس بريئاً، لا تدوين السُّنة للحفاظ على السلطة، ولا تدوين الشيعة لزعزعتها وإعطاء الشرعية لسلطة بديلة».
هل السُّنة وحي؟
تفضي هاتين المسلمتين بالتأويليين إلى القول: إن السُّنة ليست وحياً، وإنها عبارة عن تشكل تاريخي ارتبط بظروف معينة، وهو ما يعتقده أحمد صبحي منصور بناء على دليل ضعيف مفاده أن تدوين الحديث تم في القرن الثالث الهجري على يد البخاري (ت 256هـ)، بعد قرنين ونصف قرن من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ «فكيف يستقيم في المنهج العلمي أن تتداول ستة أجيال كلمة ما منسوبة للنبي عبر الروايات الشفهية؟»، متجاهلاً أن البخاري كان لا يقبل بحديث إلا إذا اتصل سنده بالنبي صلى الله عليه وسلم على وجه صحيح، لكنه يزعم أن الإسناد شابه مآخذ لا حصر لها.
أما شحرور فيميز بين جانبين من جوانب الإسلام؛ الجانب المطلق وهو الله سبحانه وتعالى، وقد عبر عنه الكتاب الموحى به من عند الله المتضمن الأحكام والحدود الذي يطلق عليه اسم «الرسالة»، والجانب النسبي في الإسلام المتمثل في النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، حيث أخذ النبي صلى الله عليه وسلم المطلق في الإسلام وحوله إلى عالم الحقيقة النسبي الذي عايشه في القرن السابع؛ وإذا ما احتج قائل أن السُّنة وحي مصداقاً لقوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم)، فلا يقبل شحرور ذلك استناداً إلى أن الضمير «هو» لا يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل إلى الكتاب، واستناداً كذلك إلى قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: 3)، إذ كيف كمل الدين والحديث لم يدون لا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد صحابته؟ وتلك حجة واهية؛ إذ إن الجمع والتدوين مجرد عملية إجرائية فنية لا علاقة لها باكتمال نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقرآن ذاته لم يُجمع إلا بعد سنوات من وفاته صلوات الله عليه.
يؤثر جمال البنا العنف اللفظي على التقعيد النظري الذي لا تؤهله قدراته الفكرية على القيام به، ومن أمثلته قوله: إنه من غير المعقول أن تكون الأحاديث توارت بعد نطق الرسول صلى الله عليه وسلم لها «حتى كشف عنها المحدثون كما يكشف علماء الآثار عن المومياوات والتماثيل التي أودعها الفراعنة أعماق الأرض»، ويبلغ به الشطط حد الزعم أن عملية «توثين الأحاديث» لم تحدث إلا في عهد معاوية الذي بث القصاص في المساجد لتقصي الأحاديث.
ويسلك حسن حنفي سبيلاً وسطاً ذاهباً إلى أن الحديث وحي لكنه مشوب بالشخصانية التي تتمثل في تفسير الرسول وفهمه للوحي، وفي احتمالية الخطأ من جانبه صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الحالة يقوم الوحي الأول بتصويب الوحي الثاني كما في واقعة الأعمى الشهيرة التي خلدها القرآن، فكون الحديث وحياً ليس بمعنى أنه أوحي بلفظه أو بمعناه، وإنما بمعنى أن مبين ومفسر لما في القرآن؛ أي أن سلطته مستمدة من القرآن وليس له سلطة ذاتية، وعلم الحديث بالتالي «ليس علماً مقدساً الصواب فيه من جانب واحد، وإنما هو علم نسبي لا إطلاق فيه؛ مع أنه ضمن العلوم النقلية التي لا اجتهاد فيها ولا إعمال للعقل، مما يدل على أن النقل الخالص لا وجود له، مجرد ادعاء غير صحيح».
وفي الأخير يمكن القول: إن اهتمام الحداثيين كان منصباً على نفي صفة الوحي عن السُّنة، والزعم بأن الأحاديث موضوعة، ولم يقيموا على دعواهم برهاناً يمكن مناقشته اللهم ما ساقه المستشرقون من قبل.