تشكل ذكرى إحراق المسجد الأقصى المبارك واحدة من الذكريات المؤلمة التي تؤرق كل محب لهذا المسجد، وكل منتمٍ لهذه الأمة، ولو لم نكن من الجيل الذي عايش هذه الجريمة، إلا أن صداها ما زال ماثلًا في الأذهان والوجدان، على الرغم من مرور نحو 54 عامًا على قيام الصهيوني دينس مايكل روهان بها، وأظن أن إعادة تذكرها بكل ذلك الشجن ليس جزءًا مما يمارسه البعض من بكائيات على أمجاد التاريخ الضائعة، أو في سياق شعارات «استيقظي يا أمة المليار» وغيرها، ولا الحزن على ما فقده المسجد من معالم وأجزاء، وأبرزها منبر نور الدين زنكي، المعروف بـ«منبر صلاح الدين»، ولكنَّ لذلك أسبابًا أخرى.
جريمة إحراق «الأقصى» أحيت فكرة خسارة المسجد نهائياً
تلك الأسباب تتعلق بالأثر الذي ترتكه تلك الواقعة، فقد أحيت جريمة الإحراق فكرة خسارة المسجد بشكلٍ نهائي، وأنها لم تعد في سياق الأمر البعيد غير الممكن، فقد كان الحريق نموذجًا كان يمكن أن يلتهم كل المصلى القبلي، وتمتدّ لاحقًا لمصليات المسجد وساحاته، ومما أسهم في تأجيج هذه الفكرة، وتكثيف حضورها، أن الحادثة جرت بعد نحو عامين من احتلال القدس، وتدنيس جنود الاحتلال لساحات المسجد الأقصى؛ ما أعاد الجزع للنفوس، وكأن الحريق أيقظ ذلك البعبع المتواري ليقول للناس: إن «الأقصى» لم يعد آمنًا في كنف الأمة، بل هو بين يدي محتلّ غاشم غاصب.
حالة التفاعل العربية والإسلامية
وعلى الرغم من هذه الحالة، فإن محدودية الرد حينها كان سببًا في فتح عيون الاحتلال بأنه قادرٌ على المزيد، وجميعنا مرّ معه كلام رئيسة وزراء الاحتلال حينها غولدا مائير، وعدم استطاعتها النوم في الليلة التي تلت الجريمة خوفًا من رد الفعل العربي والإسلامي، إلا أن الاستجابة -بكل أسف- لم تكن على قدر الخطر، وهنا يُمكن أن نذكّر بأن إنشاء منظمة «المؤتمر الإسلامي» التي تحولت لاحقًا إلى منظمة «التعاون الإسلامي»، كان في سياق الرد على ما تعرض له «الأقصى»، في سياق محاولة تجميع الجهود الإسلامية للدفاع عن المسجد، إلا أنها أصيبت بداء الركون على غرار العديد من المنظمات التي سبقتها وتلتها، وانكفأت على هامش الأحداث، وانحصر جل تفاعلها اليوم ببعض البيانات المكرورة تجاه تصاعد الأحداث في القدس و«الأقصى».
وهنا أذكر للقارئ الكريم ملاحظة ذات مغزى، على أثر سنوات عديدة في تقديم المحاضرات والدورات المتعلقة بالقدس والمسجد الأقصى، بأن كثرة من الناس لا يتفاعلون مع «الأقصى» إلا تجاه الخطر المحسوس، فقد تكرر على مسامعي عدد من الأسئلة في أماكن مختلفة من عالمنا العربي، من بينها: هل يمكن لـ«الأقصى» أن ينهار؟ هل سيهدم الاحتلال المسجد؟ هل ستبني المنظمات المتطرفة كنيسًا داخل «الأقصى»؟ وغيرها من الأسئلة التي تتفاعل مع المسجد بناء على الأمر المحسوس، والخطر الذي يُمكن رؤيته في العين المجردة، مثلما كان خطر الإحراق عام 1969م ماثلًا مشاهدًا، مع أنّ ما جرى في «الأقصى» فيما بعد لا يقل خطورة عن محاولة إحراقه، وتترصد للمسجد أخطار عديدة.
وتتمظهر هذه الأخطار بأشكال مختلفة؛ من استهداف «الأقصى» في خطابات السياسيين «الإسرائيليين»، وتماهيهم مع أطروحات «منظمات الهيكل»، وتنامي سطوة هذه المنظمات وتأثيرها، وقدرتها على حشد المقتحمين طيلة أيام السنة؛ وهو ما ينعكس تصاعدًا في أعداد مقتحمي «الأقصى» عامًا بعد آخر، وانعكاس هذه المخططات على تثبيت الوجود اليهودي داخل «الأقصى»، وتحويله من وجود مؤقت مرتبط بساعات الاقتحام شبه اليومية، إلى وجود دائم لا يرتبط بوقت ولا بمناسبة، وما يصاحب هذا الوجود من أداء للصلوات اليهودية العلنية والطقوس التلمودية، ويضاف إلى ما أسلفنا ذكره الحفريات أسفل وفي محيط «الأقصى»، والمشاريع التهويدية الضخمة، وبعضها يبعد نحو 50 مترًا عن حائط البراق المحتلّ؛ ما يعني أن المسجد الأقصى يعاني حاليًا من نمط مستجد من الإحراق، وهو احتراق بطيء مستمر.
بناء سيرورة متواصلة من التفاعل تواكب أبرز محطات التصعيد التي تطال «الأقصى»
وأعود في مقاربة متجددة لقضية التفاعل تجاه الأخطار التي يعانيها المسجد الأقصى، وكما أسلفت فما يعانيه المسجد اليوم لا يقل خطورة عما جرى في عام 1969م، وأن محاولات أذرع الاحتلال اليوم لبناء «الهيكل» هي امتداد لتلك الأفكار التي سكنت عقل مرتكب الجريمة دينس روهان، ولئلا نصل إلى حالة يحترق فيها «الأقصى» بنيران التهويد المستعرة كما احترق بنيران التطرف والظلام، من المهم استقراء حالة التفاعل العربية والإسلامية مع المسجد، وما يتعرض له من تدنيس واستهداف.
وأمام ما سبق، فإن أي متابع لحجم التفاعل مع ما يجري في المسجد وأدواته، يعرف بأن هذا التفاعل لا يصل بحال من الأحوال إلى مستوى الخطر، خاصة أن حالة الشعور بالخطر المحسوس الذي تسلط عليه وسائل الإعلام الضوء، أعلى بكثير من الأخطار الأخرى التي تجري بشكل صامت، لذلك نجد بأن تفاعل الأمة يتصاعد بالتزامن مع الأحداث الكبرى والاقتحامات الحاشدة لـ«الأقصى»، وبعد أن تنتهي مواسم الاعتداء هذه، يتراجع التفاعل مجددًا؛ ما يعني عدم وجود معادلة واضحة لنصره المسجد الأقصى المبارك، وتحول العديد من أنساق التفاعل إلى الفضاءات الإلكترونية، ما يحولها إلى ميادين لإفراغ الغضب، من دون الانخراط في المبادرات القائمة، أو إطلاق ما يشكل إضافة نوعية جديدة.
فمن أوجب الواجبات اليوم بناء سيرورة متواصلة من التفاعل تواكب أبرز محطات التصعيد التي تطال «الأقصى»، وتعمل على تفعيل مختلف الشرائح والفئات في مجتمعاتنا، ودعوتي هذه ليست من باب جلد الذات، أو تلك الأقوال المموجة بأن «الأمة تترك القدس وأهلها منفردين»، ولكنها دعوة لمزيد من الاستنهاض والعمل، ومراكمة الفعل المؤثر، فالأخطار المحدقة بـ«الأقصى» كبيرة، والفاعلون المؤثرون في صف الاحتلال كثر، فكيف نقعد ونحن أصحاب الحق، والأقصى ثالث مقدسات أمتنا، وأول قبلة لنبينا، وهو مسراه وفيه أم الأنبياء، وغيرها من الفضائل والمكرمات؟
ختامًا، إن ما يُمكننا تداركه في الوقت الحاليّ سيكون حجر عثرة أمام الاحتلال ومخططاته، وما نتركه حاليًا، ستعمل أذرع الاحتلال على تحويله إلى أمر واقع في السنوات القادمة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.