نطرح في هذه الحلقة رؤية المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد (1942 – 2004م)، والحقيقة أن هذه الرؤية لم تأخذ حقها في المعرفة حتى داخل المهتمين بهذه القضية، وذلك لسببين، الأول: صعوبة اللغة المكتوبة بها والمصطلحات الواردة، والصياغة اللغوية شبه المعقدة والمركبة إلى حد كبير في التعبير عن الأفكار، ثانيًا: لم يقم صاحب هذه الرؤية بتهذيب الصياغة وتقديمها مرة أخرى للقارئ المتخصص رغم التغذية المعرفية الراجعة التي قدمت له في حوارات حول هذا الطرح، إلا أن ذلك لا يجعل المتتبع لمثل هذه القضية (المنهجية المعرفية القرآنية) أن يتجاوزها حتى لا تظلم هذه الأطروحة أكثر من مرة، ونحاول في هذه التحليل أن نقدم قدراً من التعريف بأهم ما قدمته هذه الرؤية الفكرية القرآنية.
المنهجية المعرفية
نقف أولًا على مفهومي المنهجية والمعرفية، كما توضحهما الدراسة، فالمعرفية: تعني «إرجاع المفردات اللغوية والأفكار والاتجاهات ومحتوى الثقافات إلى أصولها البنائية التي تحدد دلالتها، فحين نقول: «المعرفية القرآنية» يقصد بها: استرجاع الأصول التي يحدد بها القرآن فهم ظاهرة ما أو أمراً ما ولا يتم الاسترجاع إلا بتفكيك المفهوم وتحليله، ثم سحبه على الاستخدامات الشاملة له في نفس الإطار».
من حيث الوظيفة يمثل مفهوم «المعرفية» الضابط المنهجي للنموذج المعرفي الحضاري «ليست المعرفية شكلًا من أشكال التفكير المادي، وليست نتاج مذهب وضعي معين، إنها تعبير يستهدف الأخذ بالآفاق الواسعة لقدرات الثقافة العملية المعاصرة وتوظيفها في إعادة اكتشاف وتحليل إشكاليات المجتمع والثقافة الإنسانية.. فالمعرفية حفر في الجذور بحيث ترد كل إنجاز ثقافي إلى تاريخيته وتجادل تفكيك النظم والمفاهيم ودلالات اللغة ووسائط الاتصال بين الذهن والعالم، فالمعرفية إما أن تحقق في النهاية قطعية مع الخلفيات الموروثة، وإما أن تعيد توظيفها على نحو معاصر ومن منطلق نقدي وتحليلي: فالمعرفية ترتبط دومًا ببناء مشروع حضاري في إطار ثقافي عالمي معاصر ودون نزعة أيديولوجية».
أما المنهجية: فهي تقنين للفكر، ودون هذا التقنين يتحول الفكر إلى مجرد تأملات وخطرات انتقائية.. كما أن المنهجية لا تقبل التوفيق ولا التوسط، فهي قانون محدد لإنتاج الأفكار.. كما أن المنهجية لا تعني «الأحادية» في التفكير؛ بمعنى أن قانون الأفكار لا يستوعب ما يبدو متناقضًا ومتعارضًا، كمثال الجبر والاختيار، أو المادية والوضعية الانتقائية، ولكنَّ ثمة فارقاً بين معالجة ما يبدو متناقضًا ومتعارضًا في إطار الضابط المنهجي نفسه لقانون الأفكار ودون توفيقية، وبين معالجة ما يبدو متناقضًا ومتعارضًا دون منهج ومن خلال التأمل العقلي فقط.
كما يستخدم مصطلح المنهجية عمومًا ليعطي معنى «الناظم الكلي» للأفكار وأشكال الوعي المعرفة برد الكثرة إلى الوحدة التي تحتويها، وتمضي طرائق البحوث إما برد الكثرة وتفتيتها لاكتشاف عناصرها الأولية (التحليل)، أو باكتشاف مظاهر الوحدة في هذه الكثرة (التركيب).. والمنهجية بالمعنى العام –أيضًا– تقارب طريقة البحث في الأمور لتنتهي إلى إيجاد ضوابط لها، أي قانون لها، وفي هذا الإطار العام تطلق صفة المنهج ومنهجة الأمور والمنهجية على كل فكر يستهدف إيجاد قواعد للتفكير، في مجال جزئي أو كلي.
كما تستند المنهجية إلى مرجعية تمثل لها إطارًا متكاملًا يتضمن التصورات والمفاهيم والقيم وضوابط العلاقات بين الأشياء؛ «إن المنهجية بوصفها إطارًا مرجعيًا لأفكار موحدة، لا تستخلص علميًا إلا من إطار موحد عضويًا (مرجعية)، ففلسفة العلوم الطبيعية التي أطلقت المنهجية المعاصرة في البحث، إنما استمدت هذه المنهجية من رؤيتها العلمية للظاهرات الطبيعية الموحدة عضويًا في تفاعلات النسيج الكوني الطبيعي، فلو لم تتمكن فلسفة العلوم الطبيعية من التعامل مع القوانين الكونية في إطار النظريات المتكاملة من الفيزياء إلى الأحياء لما استطاعت الوصول إلى الضابط المنهجي الذي أسقطته فيما بعد على العلوم الاجتماعية والإنسانية وبدأت تحفر في تجاويف التركيب العقلي للمقولات الأخلاقية والفلسفية».
في ضوء التحديد السابق لمفهوم «المنهجية المعرفية»، تقدم الدراسة جملة كبيرة من الأفكار حول منهجية القرآن المعرفية، تمثل مجالاً واسعاً للتفكير المعرفي في القرآني، استخلصنا من هذا المجال الفكري مجموعة من المبادئ التي يمكن تضمينها في أصول النظر المعرفي القرآني للكون والإنسان، أي طريق الوصول إلى فهم الكون (الطبيعة) والإنسان معًا من خلال تطابق منهجية النظر كما تتبناه هذه الرؤية.